يوسف الشايب
في إحدى زوايا معرض “غزْل العُروق”، المُقام حاليًا في المتحف الفلسطيني في بير زيت، ثمة ثوب يميل إلى البياض (أوف وايت)، يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي من منطقة رام الله، تبرعت به صاحبته بعد نكبة 1948، لإحدى اللاجئات اللاتي اقتلعن من منازلهن، إلا أن الأولى أنحل من الثانية، فما كان من الأخرى إلا أن بادرت إلى استخدام قماش “أكياس” الطحين التي توزعها الأمم المتحدة على اللاجئين لتوسعته من منطقة الخصر ومناطق أخرى، واللافت أن حرف (N) يظهر أسفل الإبط في الثوب، وهو ما يعكس عمق المأساة وعمق التضامن الاجتماعي معًا.
وكان ملفتًا أن يبدأ المتجول للمعرض رحلة القرن أو يزيد في “غابة الأثواب” بخمسة أثواب يومية، وهي الأثواب التي كانت ترتديها الفلسطينيات في يومياتهن غير الفارهة، وخاصة في الريف، فهناك “رقع” عند منطقة الركبة للاتي يضطررن للهبوط إلى الأرض لأغراض التقاط محاصيل بعينها، وهناك فتحات، أحيانًا، عند الصدر لغايات الإرضاع، وسرعان ما يتم إغلاق الجزء المفتوح بـ”رقعة” من القماش عقب الانتهاء من فترة الرضاعة.
ومن بين هذه الأثواب اثنان يعودان إلى الثلاثينيات من الخليل، ومثلهما من ذات الفترة لكن من غزة، والخامس من يطا، يحمل ألوانًا وطرائق تطريز متباينة.
وتجسد أثواب الحياة اليومية التي يستهل بها المعرض ما ينطوي عليه التطريز الفلسطيني من طابع حميمي وجهد ووقت، حتى أصبحت هذه الأثواب التي رافقت النساء في حياتهن اليومية مع مرور الزمن بمثابة قطع فسيفساء تحمل آثار أثواب قديمة توارثتها أجيال من النساء، متنقلة من أم إلى ابنتها، ومن أخت إلى أختها، ومن قريبة إلى قريبتها، لتصل إلينا اليوم بقطبها وخيوطها ورقعها والمواضع الممزقة فيها كشواهد مادية على الحياة الريفية في فلسطين أواخر القرن التاسع عشر، وعلى عمل النساء وكدحهن، الذي لا أدل عليه من مواضيع يبهت فيها الصباغ النيلي على كتان هذه الأثواب، جراء تعرضها الطويل لشمس الحقول التي أمضت فيها النساء سنوات من العمل والكدح مرتدية هذه الأثواب.
تجسيد الهوية
تناول المعرض عدة ثيمات، من بينها “التطريز والنوع الاجتماعي”، و”من ثوب إلى صورة: التطريز باعتباره رمزًا”، و”تجسيد الهوية: التطريز، الثياب، والطبقة الاجتماعية”، و”التطريز في الحياة اليومية”، و”من عمل مدفوع بالحب إلى مجرد عمل”، و”المطرّزات” (أي من يقمن بعملية التطريز).
ويبرز في المعرض ثوب أزرق مُذهّب، “حداثي”، ذو طراز فرنسي لم يخل من تطريز عند القبّة وفي الأكمام، اشترته بسمة قعوار من الناصرة أثناء زيارة قامت بها إلى القدس عام 1921، لدى قضائها “شهر عسلها” هناك، وكان هذا النوع من الأثواب التي تحدث مزجًا ما بين التصاميم الأوروبية والتطريز الفلسطيني يباع في بعض المحلات ومتاجر الملابس “الراقية”، آنذاك.
وقالت قيّمة المعرض ريتشل ديدمان، من مقر المتحف ببير زيت: يروي هذا المعرض، الذي استغرق أربعة أعوام من البحث والعمل، قصصًا فريدة لم يُسمع بها من قبل، بحيث نقرأ في كل ثوب تاريخه الخاص وقصته.
وأضافت: ظهر التطريز خلال المئة عام الأخيرة، كصورة ورمز وسلعة وأداة مقاومة ومصدر للفخر والقوة، ويأتي المعرض ليبحث في دلالات كل هذا وانعكاساته وتحولاته.
في المعرض الكثير من العناوين الفرعية التي يستحق كل منها تسليط الضوء عليه منفردًا، ومنها: “أثواب تاريخية من فلسطين”، و”التطريز والفن التشكيلي”، و”أثواب الرجال”، و”منظمة التحرير ومساعي إحياء التراث الفلسطيني”، و”فلسطينيات يتصدرن الملصقات: أمهات ومقاتلات”، و”تطريز على الملصقات: تداول الرموز”، و”الرموز المطرزة المحلية والأجنبية”، و”صامد: التطريز والاقتصاد الثوري”، و”أثواب المخيم”، و”النكبة وآثارها على التطريز”، و”جمعيات التطريز: إنعاش الأسرة والمقاومة السياسية”، و”المنظمات والجمعيات: الحفاظ على التطريز”، و”بورتريهات المرأة الفلسطينية”، وغيرها.
من صنع الرجال/ الأسرى
من هذه العناوين: “تطريز فلسطيني من صنع الرجال”، ففي فلسطين عادة ما يرتبط التطريز بالأنوثة على نحو وثيق، ولا يعترف الرجال عادة بممارسة التطريز، سواء أكان ذلك في إطار العمل أو لمجرد الترفيه، لكن الأمر يختلف بالنسبة للأسرى في سجون الاحتلال، فهم لا يخجلون من ممارسة التطريز علنًا في الزنازين، وبقدر من الإبداع، إما من باب مواجهة الضجر، ومقاومة يوميات الأسر المقيتة، أو من باب تقديم ما يصنعونه من إبداعات مطرزة كهدايا لعائلاتهم، حيث تختلط تعابير الاعتزاز والمشاعر العاطفية. والملفت أن ابتكارات حاذقة يقوم فيها الأسرى لإتمام مشغولاتهم المطرزة حين تمنع مصلحة السجون الإسرائيلية دخول المعدات اللازمة لذلك، حيث يقوم الأسرى باستخراج الخيوط من ثيابهم، واستخدام الأدوية لصبغ الأقمشة، واستخراج قطع الورق المقوى من علب الطعام لرسم مخططات تصاميمهم.
ومنها أيضًا “التطريز خلال الانتفاضة الأولى”، فعندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الشعبية عام 1987، اكتسب التطريز قوة جديدة باعتباره وسيلة للمقاومة، وحين صودرت الأعلام الفلسطينية خلال المظاهرات، وحظرت سلطات الاحتلال ألوان العلم الفلسطيني في الأمكنة العامة، صنعت نساء الضفة الغربية “أثواب الانتفاضة”، وطرزن على أقمشتها ذات الألوان الرصاصية والزرقاء والسوداء رسومًا وشعارات وطنية، فعلى قبّة أحد هذه الأثواب يرى الزائر للمعرض حمامة بيضاء تحمل بين أسنانها بندقية، وأخرى تحمل رسومات لقبة الصخرة، والعلم الفلسطيني الذي كان يسجن ويطارد كل من يحمله أو يهرّبه في تلك الفترة، أو حتى يرسمه صراحة، وخريطة فلسطين، وسفينة العودة، وأحرف (PLO) اختصارًا لمنظمة التحرير الفلسطينية، متداخلة مع الأشكال والرسوم والقطب التقليدية للثوب الفلسطيني المطرز، حتى باتت هذه الأثواب التي تتطلب وقتًا لإنجازها لتمتزج بأجساد مرتدياتها، تعكس الطبيعة الممتدة للمقاومة الفلسطينية.
وقالت زينة جردانة، رئيسة مجلس إدارة المتحف الفلسطيني: يعمل المتحف على معارض وبرامج نوعية تتناول مواضيع حيوية وهامة في الوعي الفلسطيني، وبينها هذا المعرض. فيما رأى فيه د. ممدوح العكر، عضو مجلس إدارة المتحف الفلسطيني “تجسيدًا آخر لرسالة المتحف كأحد أهم المشاريع الثقافية الفلسطينية، وكمنصة متواصلة تحمل الرواية الفلسطينية الى كل فضاءات الدنيا”.
وكانت ديدمان تقف عند أحد الأثواب المطرزة بشكل غير تقليدي، فهو أخضر مطرز بالزهور، وكأنه الربيع. وقد وصفته بـ”الحميمي”، وهو ثوب لرشا الزير من سلفيت، ولا ينتمي للغرز التقليدية الفلسطينية المعروفة في صناعة الأثواب، بل هو ثوب مبتكر، وهو ما يعكس “أن الثوب الفلسطيني يتغيّر باستمرار، لكنه سيبقى، ويعيش، وستبقى الفلسطينية تبدع في تطريز المزيد من الأثواب التي ترمز للحياة، والذاكرة، والحاضر، والمستقبل أيضًا”، فهذا الثوب الذي لا يتماشى مع “الأثواب التقليدية إلا قليلًا”، يؤكد أن التطريز كانت حرفة نشطة ولا تزال. وكما سعت نساء فلسطين في القرن التاسع عشر إلى الابتكار والتجديد عبر استلهام الأنماط الحديثة السائدة في أوساط مجتمعات نسائية أخرى، تستوحي الفلسطينيات اليوم تصاميمهن من أعمال قريناتهن، فيتبادلن وحدات التطريز ورسومه عبر وسائط التواصل الاجتماعي، بحيث يقدم ثوب الزير دليلًا إضافيًا على احتفاظ التطريز الفلسطيني بموقعه ومكانته في المجتمع الفلسطيني، وعلى مضيه قدمًا في التطور على يد النساء اللاتي ينتجنه.
وكما أشارت ديدمان، وكما يمكن أن يلمس المتجول بين تفاصيل المعرض التي ترحل بك بعيدًا قبل أن تعيدك إلى أرض المتحف الفلسطيني في بير زيت، فإن “غزْل العُروق” يسعى إلى تكوين صورة شاملة لتاريخ فلسطين المادي من خلال عرض أكثر من 80 ثوبًا وقطعة مطرزة من مختلف مناطق فلسطين يعود بعضها إلى منتصف القرن التاسع عشر، إضافة إلى الحلي التاريخية والملصقات واللوحات والصور الأرشيفية والأغاني والمواد الأدبية والفيديو، ما يساهم في بناء صورة شاملة لواحد من أهم مركبات تاريخ فلسطين المادي، فالمعرض يستكشف، عبر ترابط الخيوط المتكرر داخل النسيج، تاريخ فلسطين، وحياتها السياسية، من خلال تناوله لهذه الممارسة البسيطة بحميميتها المعروفة بالتطريز.