«الآن أعلم من دون أي شك أن مصدر كل الشرور في العالم هو دم الحيض». عمار عبد الحميد، رواية «الحيض».
ماذا سيحصل لو بطريقة سحرية باتت الدورة الشهرية تصيب الرجال؟ تجيب الناشطة النسوية الأمريكية الشهيرة «غلوريا شتاينم»، في وقت سابق في العام 1978: «سيصبح الحيض فعلًا بيولوجيًّا يُحسَد عليه الرجال، وسيجاهرون ويتباهون بغزارة دمائهم ومدة استمرار الدورة الشهرية».
تبدو الإجابة صالحة في منتصف 2018. مشكلة الدورة الشهرية الأساسية أنها تصيب أجساد النساء: دماء تخرج من أجساد يُفتَرَض أنها أساسًا عورة، أو لنقل عار يجب مداراته.
لكن لِنعد إلى البدايات، بدء الخليقة ربما. البديهي جدًّا أن كل امرأة منذ بداية الكون أصابتها الدورة الشهرية، بغض النظر عن تقييمها الأخلاقي، أهميتها في التاريخ، مكانتها الاجتماعية: ملكات، وقديسات، وفنانات وعاملات جنس، وربات بيوت، ومشرَّدات. هو القاسم المشترك شبه الوحيد بينهن جميعًا.
رغم أن الحيض موجود من القدم، فإن الحديث عنه في المجتمعات الغربية والعربية (وإن بشكل متفاوت) لا يزال غامضًا وفضفاضًا وشبه محرَّم. لا بد من استخدام أسماء غريبة لوصف أيام الدورة الشهرية، تمامًا كما يحصل عند الحديث عن الأمراض، مثل السرطان.
أما في إعلانات الفوط الصحية، فيختفي لون الدماء الأحمر واللزج، ونرى سائلًا أزرق ينهمر على الفوطة البيضاء التي تمتصه، بينما تقفز الفتيات مرتديات سراويل بيضاء على أَسرَّتهن، يتفاذفن وسادات محشوة ريشًا.
إليكم الحقيقة المُرَّة: هذه ليست الدورة الشهرية. لا سائل أزرق، ولا سراويل بيضاء، والأكيد أنه لا وجود للوسادات المحشوة بالريش، بل دم كثير، وأوجاع في البطن والظهر والرجلين والرأس، وفائض من الهرمونات يؤدي إلى تقلُّبات مزاجية مرهقة.
رغم هذا الحضور الطاغي للدورة وأعراضها، فإنها تبقى خفية، لا نكاد نراها، ولا نسمع عنها. وإن خرجت إلى النور قليلًا يسرع المجتمع، ومعه قوى الرقابة الأخلاقية بتعدد أجنحتها، إلى طمسها.
التعامل المريب مع الدورة الشهرية مرتبط بشكل بديهي بالتعامل المريب مع أجساد النساء في أغلب المجتمعات. هذه الأجساد الأنثوية التي تشكِّل عبئًا على العائلات والأديان والمجتمعات الصناعية المنتجة بدأت تبحث عن حلول لما قيل إنه عجزها الشهري.
أول فوطة صحية لشركة «كوتكس» في عشرينيات القرن العشرين لم تحل الأزمة بسبب الحساسية التي سببتها لمهابل النساء.
تتالت الابتكارات، من الفوطة الصحية اللاصقة (1969) إلى السدادات القطنية، ثم كؤوس الحيض. وفي محاولة لمداراة هذا العبء ظهر الابتكار الذي بدا فتَّاكًا عام 1975: شركة «بروكتر آند جامبل» الشهيرة وضعت في الأسواق سدادة قطنية صغيرة بعنوان «ريلي»، كان شعارها أنها «تمتص كل شيء حتى الهموم». حلَّت هذه السدادات مشكلات نساء كثيرات، واحتلت ربع السوق الأمريكية، و.. قتلت عشرات النساء. السدادة نفسها تَبيَّن أنها تحتوي على نوع من أنواع البوليستر الذي ينتج بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية.
ليس مبالغة إذًا القول إن نساءً قُتِلن في أثناء محوالتهن مداراة حيضهن.
حيض: بداية التغيير
في 2015 قفزت الدماء إلى شاشات مستخدمي تطبيق إنستغرام عندما نشرت «روبي كور» صورة تُظهِر ملابسها مع بقعة دم نتيجة الدورة الشهرية. حذف التطبيق الصورة مرتين، لأن الرقابة الرافضة لخدش نظر المستخدِم بدت مستفزَّة. وتوالت الأحداث التي حاولت خرق «حرمة» هذا الحدث الشهري.
في إبريل 2015 قررت الموسيقية الأمريكية الهندية «كيران غاندي» المشاركة في ماراثون لندن خلال دورتها الشهرية، ودون أن ترتدي فوطة صحية. ركضت طيلة السباق والدماء واضحة على ملابسها.
وفي أغسطس من العام نفسه قال المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية (وقتها) دونالد ترامب، مهاجمًا الإعلامية «ميغين كيلي» التي سألته عن تاريخه في إهانة النساء: «كان يُمكن مشاهدة الدم يخرج من عينيها، والدماء تخرج من.. أي مكان»، مُلمِّحًا إلى أن الدورة الشهرية سبب بحث كيلي في تاريخه المسيء للنساء. انطلقت بعدها حملة على مواقع التواصل تهاجم ترامب تحت هاشتاغ «PeriodsAreNotAnInsult#» (الدورة الشهرية ليست إهانة).
بدا كأن الدورة الشهرية تحقق انتصارها الشعبي في تلك اللحظة، تدخل دخلتها الكبرى إلى عالم الأضواء. استمر كسر التابو، ففي يناير 2016 أعلن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما أنه لم يكن يعرف أن السدادات القطنية (Tampons) تخضع للضرائب في عدد من الولايات باعتبارها «ترفًا». بعده بثمانية أشهر لم تتردد السبَّاحة الصينية «فو يوانهوي» في القول إن أداءها في الألعاب الأولمبية في ريو دي جانيرو كان سيئًا بسبب دورتها الشهرية.
1 من كل 5 فتيات في الريف الهندي تُجبَر على ترك المدرسة بعد بلوغها، و12% فقط من 355 مليون سيدة بالغة يستخدمن الفوط الصحية.
الحيض إذًا أمر حقيقي، يتحدث عنه رئيس الجمهورية، ويعيق رياضية من الفوز بميدالية لبلدها. ماذا أيضًا؟
شهرة هذه الدماء سرعان ما انسحبت من الساحات العامة لصالح نقاشات نسوية أخرى متزامنة مع صعود اليمين في أمريكا وأوروبا: حق الإجهاض، الحق في قوانين تنصف النساء من العنف الأسري في أغلب الولايات الأمريكية، ثم قضايا أخرى لا تقل أهمية، مثل تراخيص الأسلحة الفردية وحقوق الأمريكيين ذوي البشرة السوداء.
تحت ثقل كل هذه الملفات بات الحديث عن الدورة الشهرية ترفًا فعلًا. لكنه ليس كذلك، ولم يكن يومًا كذلك. فتأثير هذه الدماء الخفية مباشر في حياة نصف سكان الكوكب (وغير مباشر في النصف الآخر)، تأثير لا يقتصر على الأوجاع والهرمونات، خصوصًا في الدول النامية التي يعد بلوغ الفتاة فيها بداية جحيم حقيقي.
الهند وحدها تعيش فيها النساء مآسي يومية نتيجة الدورة الشهرية: واحدة من كل خمس فتيات في الريف الهندي تُجبَر على ترك المدرسة بعد بلوغها، وفق تقرير لمنظمة «بلان إنديا». ومن أصل 355 مليون سيدة بالغة، 12% فقط يستخدمن الفوط الصحية. مثال الهند يمكن أن ينسحب على القسم الكبير من الدول النامية والعربية، وعلى النساء المهمشات في كل أنحاء العالم، كالسجينات أو المشرَّدات أو عاملات الجنس.
طيب، كل ما سبق جيد. بداية مهزوزة وصغيرة، لكنها بداية كسر التابو الذي لا يوجد تفسير اجتماعي واضح لتحوله من فعل بيولوجي طبيعي إلى سلسلة أساطير وشائعات ومعتقدات غامضة وساذجة ومتوحشة في راديكاليتها في كثير من المجتمعات.
دورة شهرية؟ هيا ندفن رؤوسنا في الرمال
ماذا عن العالم العربي؟ فراغ. فراغ كبير لا تملؤه أرقام ولا دراسات ولا إحصاءات، ولا حتى أصوات نسوية على مواقع التواصل تخبرنا بأن «الدورة الشهرية ليست إهانة».
لماذا تبدو دماء الحيض ممنوعة من التداول رغم كل الدماء التي تملأ الشاشات والصحف والإنترنت، وتغطي شوارع عربية كاملة؟
عند البحث عن تاريخ التعامل مع الدورة الشهرية في المجتمعات العربية لا نجد شيئًا تقريبًا، وحتى في الكتاب الشهير «اللعنة: التاريخ الثقافي للدورة الشهرية» (1976)، الذي كتبته «جانيس ديلاني» و«ماري جاين لوبتن» و«إميلي توث»، لا نجد أي إشارة إلى ذلك باستثناء جملة وحيدة فقيرة: «استخدمت القبائل العربية الرئيسية في الشرق الأوسط بلوغ الفتيات فرصةً لختانهن أو خياطة فروجهن، لخفض متعتهن الجنسية وحصر حاجتهن في رجل واحد». انتهى. هذا هو التاريخ الثقافي العربي في التعامل مع الحيض، وهو في جزء منه حقيقي وواقعي.
لكن النساء والفتيات العربيات يعلمن أن هناك أكثر من ذلك بكثير ليُقال: الأسماء التي تُستخدم لوصف الحيض، الأكياس السوداء التي توضع فيها الفوط الصحية عند شرائها، محاولات شرح أسباب التعب في أثناء دوام العمل، اتساخ الملابس ببقع الدماء فجأة في المدرسة أو الجامعة أو المكتب، العبارات النمطية التي يسمعنها، محاولات تخبئة الفوطة الصحية بين طيات الملابس خلال الذهاب إلى الحمام. هذا في اليوميات، أما في الإطار الأوسع، فالقوانين الاجتماعية تحكم أيضًا حياتهن في تلك الفترة: من الدين إلى العائلة.
في المنطقة العربية الغارقة في الدماء منذ 70 عامًا، تُصَوَّر النساء دائمًا خائفات من العنف والدماء، العنصر الأضعف عند كل جريمة ومجزرة، وهو ما يبدو مضحكًا أكثر منه غريبًا. بين النساء والدماء علاقة حميمة ودورية خلال أكثر من نصف حياتهن تقريبًا، فلماذا تبدو دماء الحيض ممنوعة من التداول بين كل الدماء الأخرى التي تملأ الشاشات والصحف ومواقع التواصل، وتغطي شوارع عربية كاملة؟
الجواب الأقرب إلى العقل أن مشكلة دماء الدورة الشهرية أنها تخرج من المهبل، وتنحصر بين فخذي النساء. تلك الرقعة الجسدية المضطربة في ذهن الشعوب العربية، إذ لم تحدد التقاليد بعد، ومن خلفها الموروث الاجتماعي والديني، إن كانت ملكًا للفتاة أم لعائلتها وعشيرتها.
حتى في الأدب العربي، لم تقارب الروائيات/الروائيون الموضوع بشكل مباشر. ربما باستثناء رواية السوري عمار عبد الحميد «الحيض» (دار الساقي، 2001). رواية كتبها رجل، وبطلها أيضًا شاب سوري، يستطيع شمَّ رائحة حيض النساء. وكُتِبَت الرواية أساسًا باللغة الإنجليزية وليس العربية. بدا كأن مقاربة الموضوع بلغة أجنبية أسهل من استخدام كلمات عربية لخرق التفاصيل الحميمة، حول تبلور الهويات الجنسية، وتعامل الذكور مع أجساد الفتيات، ومع التبدلات الهرمونية الشهرية.
في أعمال أدبية أخرى يُذكَر الحيض عَرَضًا في إطار قصص أكبر. في ورايتها «الفتاة ذات الحجاب البرتقالي» (2006) تروي الروائية السورية الأمريكية مهجة كهف يوميات فتاة من المهاجرين السوريين إلى أمريكا، وتذكر عرَضًا كيف تعاملت معها عائلتها عند بلوغها.
في محاولة لخرق هذا الفراغ قدمت لبابة حلواني، من جامعة هارفارد، أطروحة ماجستير عام 2016 بعنوان «إعادة تأطير جحيم الدم: طقوس الحيض وممارساته بين العرب والعرب الأمريكيين».
تؤكد حلواني ما تعرفه كل الفتيات العربيات: في المجتمعات العربية لا تعرف الفتاة بوجود الدورة الشهرية إلا عند بلوغها. في تلك اللحظة، تُلقَّن الأساسيات: لقد أصبحتِ امرأة الآن، ولا يجب الحديث عن الحيض أمام الرجال.
ثم تستعرض تجارب نساء أمريكيات من أصول عربية يروين تجاربهن مع أول دورة شهرية، من الأردن إلى سوريا ولبنان ومصر وفلسطين وتونس. تبدو التجارب العربية متشابهة: مُداراة، وغموض، ووصفات سحرية للتخلص من الأوجاع المرافقة للحيض. تُجمع كل هؤلاء النساء على أن المعتقدات الراسخة تؤكدأن الدورة الشهرية أمر «مقرف»، لذلك يجب تفادي الحديث عنه بشكل علني.
لم تصل لبابة في أطروحتها إلى خلاصات علمية. استعرضت الحالات مكتشفةً أن الموضوع قد لا يكون محرَّمًا تمامًا ما دام الحديث نفسه عن الحيض يحصل بين نساء العائلة أو بين الصديقات. لكن لبابة تفتح الباب أمام أسئلة كثيرة، وتتركها معلَّقة، فهي تعترف بأن غالبية الفتيات المشمولات في الأطروحة يربطن بين هويتهن الدينية المسلمة وطريقة تعاملهن مع أجسادهن، وأن تربيتهن المحافظة كانت عاملًا أساسيًّا في المداراة خلال الحديث عن الحيض.
لكن لنطرح نحن الأسئلة التي لم تجد طريقها إلى دراسة لبابة حلواني أو دراسات علمية أخرى: ما الذي يمكن أن يستفز رجلًا إذا رأى فتاة تسير إلى الحمام وفي يدها فوطة صحية؟ ما الذي قد يزعج متصفحًا لموقع إنستغرام إذا رأى بقعة دم على ملابس فتاة؟ مَن يصنف الدماء المستفزة النجسة مِن «الدماء الزكية الطاهرة»؟
البداية تكون من هنا، من أجوبة علمية مقنعة عن أسئلة مرتبطة بالبشرية وتكاثرها، وبالرغبة الجنسية، والإنجاب، والطبيعة البشرية.
ما الحيض؟ دماء تنزل من مهبل المرأة لأيام معدودة كل شهر، ولمدة 40 عامًا تقريبًا. هذه هي الدورة الشهرية، فأين العار والنجاسة؟
(ليال حداد – منشور)