منذ سنوات، انتقلت من القاهرة الى مدينة عربية أخرى لأعمل في إحدى المؤسسات الإعلامية الكبيرة التي تنتشر مكاتبها في أنحاء العالم العربي، وأتذكر في الأسبوع الأول زميلتي العراقية اللطيفة تقول لي على استحياء أن مكان مكتبي استراتيجي ومن المفضَّل أن أرتدي البنطال وأتجنب ارتداء أي ملابس قصيرة. لم أفهم القصد من نصيحة الزميلة الودودة ولكني أدركت أن هناك قصة ما خلف هذه الملحوظة العابرة.
لم يمر أسبوعين إلا وأدركت أن أحد الزملاء الذكور يتسلى بتصوير سيقان الفتيات في غرفة الأخبار. لم يقتصر الموضوع على غرفة الأخبار فحسب، بل تخطاها إلى الاستوديو وأيضًا إلى المطبخ حيث نتناول غذائنا، حيث يجلس هو مسلطًا هاتفه المحمول من تحت الطاولة ليستكمل ألبومات الصور التي في الأغلب يستخدمها في أفعال لا أود التفكير فيها قبل أن ينام. عندما ذهبت للشكوى من ما يفعله الزميل المنحرف، قالت لي مديرته في برود “اثبتي إن دا حصل”، أخبرتها أن هناك الكثير من الشكاوى، وأن أمن البناية التي نعمل بها قد اشتكى بدوره أن هذا الشخص يقوم بتصوير الفتيات في المصعد وأثناء تدخينه السجائر في مدخل البناية وأنها بالتأكيد رأته عشرات المرات وهو يصوب كاميرا الموبايل على سيقان الفتيات في المكتب، وردت هي بنفس البرود “اخطفي منه الموبايل”.
في سياق آخر وقبل أن أتوقف عن التدخين، كنت أنزل إلى مدخل البناية مع مجموعة متغيرة من الزملاء والزميلات، ربما ثلاث أو أربع مرات في اليوم لتدخين سيجارة أو اثنتين. وبما أنني من الأشخاص الذين يفضلون الذهاب الى العمل في وقت مبكر من الصباح، فكنت أشرب قهوتي الصباحية مع أحد الزملاء، ولنسميه هنا “أحمد” وهو ليس اسمه الحقيقي بالطبع. أحمد صحفي وكاتب بأحد البرامج الرئيسية بالمحطة، شخص ودود جدًا ولطيف وعلاقاته جيدة بمعظم الزملاء، كانت كل مشكلتي مع أحمد أنني عندما أغيب لبضع الأيام في إجازة قصيرة يُصرّ على تقبيل يدي ولم أفهم أبدا لماذا يصر على هذا التصرف العجيب الذي يخرج تمامًا عن سياق الصداقة والزمالة ويسبب لي بعض الحرج. وعندما سألته في مرة “فيه إيه يا أحمد، انت بتبوس ايدي ليه” رد في فخر “دي جنتلة”، وأيضًا لم أفهم كيف يعتبر تقبيل يد زميلته في العمل تصرفًا مقبولًا بل ويندرج تحت بند اللطف أيضًا.
المهم، في أحد الصباحات التي نشرب فيها القهوة مع سيجارة سريعة بدأ أحمد يخبرني عن الشجار العنيف الذي حدث مع زوجته وأن علاقتهم بدأت في الإنهيار وأنه يتوقع هذا من فترة طويلة بسبب توقفهم عن ممارسة الجنس منذ سنوات. حاولت في هذه اللحظة بكل ما أوتي لي من قوة وإرادة أن أحافظ على تعبيرات وجهي ثابتة بلا أي أثر لشعور عدم الإرتياح الذي راودني، خاصة مع إحساسي أنه ينتظر رؤية رد فعلي بعد ما قال. توقفت بعد هذا الموقف عن النزول للتدخين نهائيًا حتى مع الصداع الذي كانت ينتشر في رأسي بسبب تأجيل سيجارتي الأولى الى ما بعد السادسة مساءً.
في مدينة أخرى أكثر تقدمًا وتحررًا، حكت لي صديقة عن عرض مديرها أن يتناولوا مشروب كحولي في المكتب بعد ساعات العمل الرسمية، واضطرت هي للموافقة حتى وإن كان هناك صوت يخبرها في رأسها أن هذا ليس لائق وأنه ليس من المنطقي أن يقوم بهذا العرض، ولكن مثل العادة ومثل ما نفعل في أوقات كثيرة تخوفت من أن يثير رفضها غضب المدير الذي يستطيع أن يحول حياتها الى جحيم إن شعر بمثل هذه الإهانة، هذا بالطبع إن لم ينهي تعاقدها لأي سبب آخر. حكت لي صديقة أخرى عن الزميل الذي قام بتقبيلها من رقبتها في بساطة واعتيادية، وعن دهشته عندما أبدت غضب من التصرف واصفا قبلته بأنها “بريئة” وبأن الفتاة “طلعت معقدة”. حكت لي أخرى عن الدعوات المستمرة من زميل آخر وفي مكان عمل آخر، هذه المرة في مدينة أوروبية، بأن تذهب للسهر معه وحدهم في منزله معتبرًا أن هذا شيء عادي وأن دعوته تظل داخل إطار الزمالة العادية.
الكثير من الحكايات غير الملائمة تدور حول العالم سواء العربي أو حتى العالم الأول الذي بدوره يطلب الكثير من الأدلة والقرائن لإثبات واقعة التحرش. ليس من الكافي لدول العالم أن هناك سيدة تشعر بالتوتر والإهانة بسبب تعليق أو دعوة جنسية بأن تتخذ إجراءات قانونية صارمة ضد المعتدي، فلابد من إثبات أن هناك إعتداء ما حدث بشهود وربما ندبات أو تقرير للطب الشرعي. وفي الحقيقة لا أعرف أي طبيب شرعي يستطيع إثبات ما تتركه هذه الدعوات من آثار سيئة والتي يزيدها تخاذل معظم المؤسسات في العالم في إتخاذ الإجراءات القانونية المطلوبة وعدم وجود منظومة قانونية عادلة تستمع بعقل وببعض من الفطنة السليمة لما حدث من تجاوز. في النهاية، وفي معظم الحكايات التي حدثت لي أو لصديقات مقربات، تستكمل المرأة العمل في بيئة معادية وغير مريحة وتجد نفسها في معركة متواصلة لأن تحمي نفسها من المحاولات المهينة من زملائها، أو تصطدم بالمعتدي وينتهي الأمر أنها تخسر عملها وفي الأغلب سمعتها وتتهم بالهيستيريا وقلة العقل ولا بأس من بعض التشويه ولوم الضحية. الناجيات من التحرش في الأغلب يخسرن كل شيء إن اختاروا المكاشفة.
نحن لا نخترع العجلة، ومن المثير للملل أن نعتبر أنفسنا كنساء مُعلمات في مدرسة “كيف تفرق بين التحرش والملاطفة” الى مدى الحياة. من المثير للملل والغيظ أن نُضطر للتظاهر بالثبات ونحن نتعرض لتعليقات جنسية عابرة من زملاء في العمل تجعلنا نشعر طوال الوقت بعدم الارتياح والتوتر، وفي نفس الوقت نحافظ على التوازن الذي لا يجعلنا نصطدم ونخلق عداوات مع أشخاص نراهم بشكل يومي في محل عملنا. من المثير للغيظ أن نضطر أن نقول كل فترة أن أي تعليق وأي قصة بها تلميح جنسي من بعيد أو قريب هو نوع من التحرش الجنسي، وأن التحرش الجنسي لا يقتصر فقط على دعوات الجنس الصريحة في بيئة غير ملائمة للدعوة ولا يقتصر على التلامس غير المرغوب فيه فقط. من المثير للتوتر والغضب أن تخرج كل فترة تعريفات للتحرش الجنسي وكأنه شيء غير مفهوم أو وكأننا نخترع العجلة من البداية.
ليس من الكافي أن هناك سيدة تشعر بالتوتر والإهانة بسبب تعليق أو دعوة جنسية كي تتخد إجراءات قانونية صارمة ضد المتعدي، فلابد من إثبات أن هناك إعتداء ما حدث بشهود وربما ندبات أو تقرير للطب الشرعي. وفي الحقيقة لا أعرف أي طبيب شرعي يستطيع إثبات ما تتركه هذه الدعوات من آثار سيئة.
ما زلت أتذكر وجه السائق الذي وضع يده على فخذي وأنا في الرابعة عشر من عمري وأحمل شنطة مدرسية بريئة في طريقي الى المدرسة، وما زلت أتذكر وجه المدرس الذي لمس صدري وأنا لم أكمل الخامسة عشر سنة في غفلة من الراهبات اللاتي كن تشكلن حماية ورقابة عنيفة، ومع ذلك نجح في اختراق دوائر الحماية في لحظة غافلة سرقها من الجميع ولم أستطع أن أتجاوزها لمدة عشرين سنة، ما زلت أتذكر وجه كل شخص وكل تعليق وكل تلميح جنسي وكل دعوة مكروهة قيلت لي في إحدى مراحل عمري.
هل إذا وقف هؤلاء الأشخاص في طابور طويل ليقدموا الاعتذارات سأستطيع أن أسامح وأنسى الندوب التي تركتها هذه الأفعال؟ أعرف قطعًا أنني لن أستطيع أن أهز رأسي في تسامح وأكمل حياتي في سلام، فالاعتذارات لن تمحي ما حدث. ما الحل إذا؟ هل الوصم المجتمعي المؤبد هو الحل؟ هل سيمكنني أن أحتمل مجتمعات كاملة وهي تلومني على وصم شخص معتدي ومتحرش ويذكرونني بأبنائه وعائلته وعمله وحياته التي فسدت بسبب هذا الوصم؟ هل القانون هو الحل؟.
بعد سنوات من التفكير وبعد الكثير من الندبات واللحظات الكريهة التي تثير الغثيان وتترك آثارًا غير قابلة للإصلاح، استطعت أن أطور وسيلة دفاعية من “قلة الأدب” واللسان الطويل أستخدمها عندما أرى من بعيد جدًا مشروعًا لمحاولة اعتداء ما أو تجاوز قد يتطور لدرجة ما من التحرش. وعندما يسألني أحد الأصدقاء السؤال الساذج الخاص بتعريف التحرش وكيف يمكن التفرقة بين التحرش والملاطفة أو محاولات التقرب أرد في برود وباقتضاب “الفرق يوجد فقط في الفطرة السليمة.” لن أستطيع أن أنجرّ الى أن أصدق أن هناك من لا يعرف الفرق بين التحرش والحصار والتضييق على فتاة أو امرأة ما، وبين الملاطفة التي تهدف الى علاقة إنسانية طبيعية ومنطقية لا تسبب ضيق التنفس والعصبية والتوتر والندبات التي لا تزول حتى بالعلاج النفسي طويل الأمد. لن أستطيع أن أصدق أن هناك في أي مجتمع أشخاص لا يعرفون الفرق بين المكان المناسب لمحاولة خلق نوع عادي من العلاقات الإنسانية وبين بيئة العمل التي يجب أن تكون خالية تمامًا من أي شيء له علاقة من بعيد أو قريب بالحياة الجنسية لأي من الطرفين. لن أنجر إلى محادثات يخبرني فيها أصدقائي الرجال أنهم يتعرضون للتحرش أيضًا في محاولة بائسة لأن يجعلوا الموقف متساويًا في الضرر وأري هذا ضربًا من العبث لن أضيع من وقتي أو وقت من يقرأ هذا المقال في إثباته بإحصائيات وأرقام تعرفها أي طفلة في العاشرة من عمرها.