قلم د. سماح “احمد فهيم” جبر/ رئيس وحدة الصحة النفسية بوزارة الصحة .
في يوم الصحة النفسية العالمي، والذي يركز في هذا العام علىموضوع “الشباب والصحة النفسية في عالم متغير”، أودّ تسليط الضوء على الصحة النفسية للشباب الفلسطيني.
غالباً ما يعرّف جيل الشباب بالفئة العمرية بين 15-24 عاماً، وتشكل هذه الفئة ما يقارب ربع الشعب الفلسطيني، وتتميزهذه المرحلة بخصائص نفسية تشمل الانتقال من الاعتماديّة إلى تحمّل المسؤوليّة وتكوين الهوية، بالإضافة الى تغيّرات جسدية وعاطفية وإدراكية متسارعة، وفي فلسطين تعتبر مرحلة الشباب مرحلة حساسة بشكل مركب، حيث تختلط حساسية المرحلة التطورية بحساسية الحيز الجغرافي والسياق السياسي الذي يشكل محدّدات مؤثرة على الصحة النفسية للشباب بشكل خاص.
فيما يلي، أسوق اليكم بعض الأمثلة الدالة على حساسية هذه المرحلة.
لقد أظهر تقريرل (ACRI) أن المعدل العام للتسرب في مدارس القدس الشرقية هو 13%، واذا تناولنا الصف الثاني عشر على وجه الخصوص، فإن نسبة التسرب تصل إلى 36% بينما لا تتعدى نسبة التسرب العام في المدارس اليهودية في القدس ال 1% ، ويوضح التقرير أن من أسباب هذه النسبة المرتفعة غياب برامج الوقاية من التسرب في المدارس العربية في القدس، واستعجال بعض الشباب الانخراط في سوق العمل على الدراسة الجامعية التي لا تعِد بالضرورة بفرص أفضل في أجواء المنافسة غير العادلة مع الإسرائيليين.
من ناحية أخرى أشارت دارسة حديثة للمعهد الوطني للصحة العامة أن ما يقارب 1.8% من الذكور ما فوق جيل 15 عاماً يتعاطون المواد المخدرة بشكل خطير، وأن معدل عمر بداية الاستخدام هو 17 عاماً، وأن 80% من المستخدمين تتراوح أعمارهم بين 18-28 عام وأشارت دراسات أخرى أن نسبة الاستخدام في القدس لا تقل عن ضعفي نسبتها في بقية الأراضي الفلسطينية. وهذه الزيادة المقلقة لاستخدام المخدرات تذكرنا بحروب الأفيون التي شنّتها الإمبراطورية البريطانية على الصين لاستعمارها اقتصادياً في القرن التاسع عشر وما رشح من دلائل عن حروب اتّجار الاستخبارات الأمريكية بالكوكايين لتمويل الانقلاب في نيكاراجوا والادعاءات بأن ال FBI كانت مسؤولة عن تدفق المخدرات الرخيصة الى أحيــــاء السود فـــي الولايات المتحــــدة لتحييد شباب الفهود السـود (BlackPanthers) والإضرار بمصداقية ثورتهم ضد العنصرية.
وقد تجلى الخطر الأكبر فيما أظهرته دراسة في الدورية العالمية لطب الأطفال والمراهقين ، نيسان /2017 ، حيث وجد الباحث طه إيتاني وزملاؤه، أن 25,6 % من طلاب المدراس بعمر (13-15) فكروا في الانتحار، وهذه النسبة أكبر من نظيراتها في البلدان المجاورة – حسب نفس الدراسة- حيث تراوحت هذه الأرقام بين 15-23% في البلدان المجاورة.
نعلم أنه وبالإضافة إلى الدور الهامَّ للعوامل الفردية في كل من المشكلات السابقة : التسرب المدرسي ، وتعاطي المخدرات والانتحار ، هناك محددات اجتماعية وسياسية قوية تعمل على تعزيز التفكير العدميّ والموقف التهكميّ من الواقع وتكون بمثابة “القشة التي قصمت ظهر البعير ” في كسر المرونة الفردية ومقاومة المشاكل الشخصية.
في فلسطين ، هناك تجربة شائعة ومألوفة للوفاة الصادمة والفقدان والإصابة الخطيرة الناجمة عن العنف السياسي، ومعدلات عالية جداً للبطالة والفقر وخصوصاً في غزة، ومن المرجّح أن تساهم التوقعات المستقبلية الباهتة في زيادة التشاؤم والمخاوف بين الشباب الفلسطيني. كل هذا يعزز إطاراً ذهنياً يركز على العدميّة واللامبالاة تجاه الحياة يؤدي إلى المخاطرة وإهمال التخطيط البنّاء. من الواضح أنه عندما يشعر الشخص بأن لا قيمة له في نظر الدولة والمجتمع، فإنه يفقد الأمل بسهولة ويصاب بالنكوص والانسحاب والتراجع المتمثل في سلوكيات الإدمان والتسرب.
ومن اللافت للانتباه ان كل فئة الشباب (الفئة العمرية 15-24) قد ولدوا بعد اتفاقية أوسلو التي وقعت قبل 25 عاماً، ولقد أدى فشل هذه الاتفاقية -نتيجة عدة عوامل أهمها تنصل الاحتلال وعدم التزماه بها- دورًا هامًا في فقدان الرغبات والدوافع الصحية نحو الحياة وإلى العداوة بين الفصائل، وخلق أزمة وجودية وفراغاً معنويا في فلسطين. (هنا أضفنا الجملة ما بين الشرطتين).في وقت ما ، عندما كان المجتمع الفلسطيني محصّناً بالإيمان بقضيته الجماعية، شعر الفلسطينيون بدرجة أكبر من الوحدة الوطنية والثقة في القدرة على تمييز الصديق من العدو. لقد قوّضت العملية السياسية هذه المعاني. بحيث لم يعد من المستغرب أن يعاني الشباب، على وجه الخصوص، من تفكك في المبادئ وتشوش في الرؤية المستقبلية .
يتم تضليل الشباب في فلسطين اليوم في حقّهم في المقاومة ومشاريع “السلام” المشتركة الخادعة، والحقيقة أنّهم محرومون من فرص المشاركة الاجتماعية والسياسية الفعّالة.
يصنف مؤشر تنمية الشباب لعام 2016 فلسطين من بين 183 دولة في المرتبة 175 في “المشاركة المدنية” و 148 في “المشاركة السياسية”. وليس من المستغرب أن يجد المرء شباب فلسطين – الأكثر خذلاناً بين الأجيال– في الخطوط الأمامية للنضال الذي يقدم تضحيات مؤلمة لا نهاية لها. فهم يشكلون غالبية الشهداء والمصابين والمشوهين بسبب البتر والجروح ، وأكثر المعتقلين في سياقنا السياسي العنيف.
لقد فشلنا في إشراك شبابنا في مختلف النواحي، على الرغم من أن مشاركتهم هي إجراء حيوي في حمايتهم كما أنها أمر حاسمٌ في الأداء الصحي لمؤسسات الدولة والأحزاب السياسية. إن الحالة التهكمية تجاه الواقع السياسي ليست ظاهرةً منتشرة فقط في المزاج العام والنكات على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنها أيضا واضحة في استطلاعات الرأي. لقد كشفت دراسة حديثة أجرتها مؤسسة FAFO كجزء من مبادرة Power2Youth ، أن الفلسطينيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 29 عامًا لديهم مستويات منخفضة من الثقة في مؤسساتهم: 30٪ أعربوا عن ثقتهم في قوات أمن الدولة ، و 35٪ في الشرطة و 39 بالمائة في المحاكم. ووفقاً للمرصد العالمي ، فإن 27٪ من الشباب الفلسطيني عبروا عن ثقتهم في الحكومة المركزية ، و 12٪ في البرلمان و8٪ فقط في الأحزاب السياسية! وعلى الأرجح أن لهذا الشك الهائل في المؤسسات الاجتماعية والسياسية والقانونية أن يفسر سبب تحول ظاهرة “الذئب المنفرد” إلى أسلوب مألوف للمقاومة في الضفة الغربية.
الآن ونحن بصدد الاحتفال بيوم الصحة النفسية العالمي لعام 2018 ، لا بدّ من التركيز على خطورة التغيرات السياسية والاجتماعية على شبابنا، فالرعاية الصحية لا تقتصر على التدخلات الطبية والعلاجية الفردية التي يجب اتخاذها لتحسين صحة بعض الأفراد بين شبابنا ، بل يجب إيلاء غاية الاهتمام للصورة المجتمعية الكبرى وأثرها على الشباب الفلسطيني، فالشباب بحاجة الى الرعاية والى أن توكل إليهم مسئوليات تمنحهم الشعور بالمسؤولية والنجاح حتى يشقوا طريقهم نحو الاستقلالية الشخصية والاستقلال الوطني بنجاح. يجب علينا تطوير الآليات اللازمة لاشراك الشباب سياسياً ومدنياً والحفاظ على متانة النسيج المجتمعي والحد من البطالة والفقر، فنحن لن نستطيع أن نحافظ على الأمل وأن نحمي شبابنا من الخطر دون إضافة جودة ومعنى لحياة الشباب في فلسطين.
المصدر: وزارة الصحة الفلسطينية