تنعكس الأضواء المتراقصة المبهرة على وجوه مئات ازدحمت أقدامهم أمام شباك التذاكر، فيما يشبه السباق للحصول على مقعد في سينما “النصر” وسط مدينة غزة، للاستمتاع بمشاهدة فيلم “الثعلب والحرباء” الذي وصل حالا من القاهرة.
هذا المشهد كان عام 1970 لكن اليوم في 2019 اختفت الأقدام المتزاحمة وانطفأت الأضواء المبهرة وبات مبنى أحد أقدم دور عرض السينما في قطاع غزة أشبه بـ “خرابة” لا حياة فيها باستثناء صدى صوت بائع بطيخ وفاكهة وجد من بوابتها التاريخية مكانا لعرض بضاعته وحمايتها من أشعة شمس الصيف.
ازدهار قبل الاندثار
خفوت بريق دور السينما في قطاع غزة واندثارها لم يكن منذ وقت قريب، فآخر مرة شاهد فيها الفلسطينيون فيلما بدار عرض بالقطاع كانت قبل 24 عاما.
وقبل أن يحين موعد إغلاقها حتى إشعار آخر ازدهرت دور العرض السينمائية في قطاع غزة لسنوات طويلة بداية من عام 1944 عندما افتتحت سينما “السامر” وسط مدينة غزة، واستورد لها رئيس بلدية المدينة آنذاك، الحاج رشاد الشوا معدات خاصة وبإمكانيات عالية، وكان يشرف على استيراد الأفلام لها من مصر.
وبعد نكبة عام 1948، وانتشار مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في أنحاء القطاع بدأت وكالة الأمم المتحدة (الأونروا) بتنفيذ عروض سينمائية يومية بالمخيمات.
وفي بداية الخمسينيات من القرن الماضي، زاد نشاط دور عرض السينما في قطاع غزة وظهرت مجموعة كبيرة من دور العرض من أبرزها سينما “الجلاء” و”الشاطئ” و”النصر” و”عامر” وكذلك “السلام” و”النهضة” و”الصابرين” حتى وصل عددها في نهاية السبعينيات إلى ما يزيد على عشر دور.
وخلال فترة السبعينيات استمرت دور عرض السينما بالعمل ولكن بشكل محدود بسبب مضايقات الاحتلال الإسرائيلي الذي كان يمنع عرض أي أفلام تتناول القضية الفلسطينية أو تاريخ الشعب الفلسطيني أو أي قضايا وطنية.
وعقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، تعطلت دور السينما في مدن القطاع كافة بسبب أحداث الانتفاضة والمضايقات الإسرائيلية، وتحول معظمها إلى صالات للأفراح أو قاعات للمناسبات، وكثير منها أغلقت أبوابها.
وفي عام 1994، أعادت السلطة الفلسطينية فتح سينما “النصر” في غزة، إلا أن بعض عناصر الحركات الإسلامية أحرقوها بعد عام واحد، كما أحرقوا سينما “الجلاء”، بزعم أنها من المحرمات لتغلق دور السينما أبوابها بالقطاع إلى وقتنا الحالي.
وكان مبرر إحراق دور السينما، آنذاك، أنها تعرض أفلاما أجنبية تتضمن مشاهد خادشة للحياء ولا تتوافق مع الشرعية الإسلامية ومع عادات الشعب الفلسطيني.
السينما سلاح
ويقول الأديب الفلسطيني، يسري الغول للجزيرة نت “خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى ومع وصول السلطة إلى القطاع ظهرت الحركات الإسلامية الفلسطينية التي حاربت دور السينما واعتبرتها من المحرمات”.
ويضيف الغول “لم يكن هناك وعي لدى الفلسطينيين بالأهمية الوطنية لدور السينما في تلك المرحلة، فكان الاعتقاد السائد أنها وجدت للترفيه فقط”.
ويتابع “بدلا من أن تشكل دور السينما في ذلك الوقت حالة إيجابية يمكن استغلالها للحديث عن القضايا الوطنية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال، تمت محاربتها لتغلق أبوابها في النهاية”.
ويعتقد الأديب الفلسطيني أن السينما أحد أهم أسلحة محاربة الاحتلال، وأن المجتمع الفلسطيني بحاجة ماسة لإعادة افتتاح دور العرض التي تدعم القضايا الوطنية والإنسانية وتوفر جانبا ترفيهيا أيضا للمواطن الفلسطيني.
ويرى الغول أنه مطلوب من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الثقافية والفنية بقطاع غزة دعم وإعادة إحياء دور السينما.
ويشير إلى أنه ظهرت محاولات فردية لعرض أفلام سينمائية بالقطاع لكن الإقبال عليها كان ضعيفا لكونها بمقابل مادي.
ويقول “يجب على وزارة الثقافة والمؤسسات الرسمية دعم العروض السينمائية ماديا حتى يكون هناك حافز لدى الجهات التي ستقدم هذه العروض”.
محاولات وعقبات
وضمن محاولات إحياء عروض السينما في غزة، عرضت رابطة الفنانين الفلسطينيين، بالسنوات الأخيرة، فيلم “عاشق البندقية” الذي يروي حكاية الشهيد الفلسطيني عوض سلمي، أحد قادة المقاومة الفلسطينية.
لكن إيرادات عرض الفيلم كانت ضعيفة لدرجة وصفها من قبل الرئيس السابق لرابطة الفنانين وأحد أعضاء اللجنة التي أشرفت على إنتاج الفيلم، عمرو الراعي، بأنها “لم تحقق أي نسبة مئوية من تكلفة إنتاج العمل”.
ويقول الراعي للجزيرة نت “نظمنا عروضا للفيلم في عدة مراكز ثقافية وأندية بأنحاء القطاع لكن عدد الحضور كان محدودا للغاية، وفي بعض الأحيان كان لا يتجاوز عشرين شخصا، فالمجتمع بغزة بات يفتقد لثقافة الدفع من أجل المشاهدة وذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والتأمل بمشاهدة الفيلم على الإنترنت لاحقا”.
ويعتقد الراعي أن عدم وجود دعم مادي حكومي وعدم وجود سوق للعروض السينمائية هما ما يمنعان إحياء دور السينما بالقطاع.
ويضيف “لو كان أصحاب دور السينما بالقطاع يدركون أن افتتاح الدور سيحقق لهم عائدات جيدة لأعادوا افتتاحها منذ زمن”.
ويشير الراعي إلى أن السنوات الماضية شهدت بعض العروض التي نظمت بجهود فردية لكن معظمها فشل بتحقيق أي إيرادات مجدية.
ويرى أنه لا يوجد أي اهتمام من جانب الحكومة والفصائل الفلسطينية بالفن، فليس لديهم أي استعداد للإنفاق على الفن بالشكل المطلوب.
الدور الحكومي
عاطف عسقول، مدير عام الفنون بوزارة الثقافة بغزة، يقول إن “الحكومة معنية بكل أدوات الثقافة التي تستنهض البعد الوطني الفلسطيني، والتي تجعل الفلسطيني حاضرا على خارطة الفن والحضارة العالمية”.
ويضيف عسقول للجزيرة نت “دور العرض السينمائية بغزة مملوكة للقطاع الخاص وليست حكومية ولم تكن هناك محاولات جادة لإعادة فتحها”.
ويؤكد أن وزارة الثقافة تدعم كل المبادرات ومحاولات إحياء العروض السينمائية بقطاع غزة وتؤيدها، وقدمت موافقات لكثير من المبادرات المجتمعية والشبابية لتنظيم عروض أفلام بمؤسسات ثقافية مختلفة بأنحاء القطاع.
ويرى عسقول أن العروض السينمائية المدفوعة تصطدم بالواقع الاقتصادي في غزة، لأن غالبية الفلسطينيين بالقطاع يعانون من الفقر.
ويطالب المسؤول الفلسطيني رجال الأعمال الفلسطينيين بأن يكون لهم دور في إحياء عروض السينما بالقطاع.
ويدرك عسقول الصعوبات التي قد تواجه إعادة افتتاح دور السينما لكنه يرى أنها لا يجب أن تقف عائقا أمام إحياء هذه الدور لأهميتها الثقافية والوطنية والترفيهية.
بقلم: حنين ياسين.