يعيش المرء عمرا وهو لا يستطيع تحديه نيته، أو إذا كانت توبته قُبلت أم لا، أكانت أعماله خالصة لوجه الله أم تخلل بها بعض الرياء، أكان صادقا حق صدقه حين صام وقام وصلى، أم اختلطت عليه أمور شتى.
لا معيار لكل ذاك سوى القلب والنفس، نحن لا نسشتعر أعمالنا إلا إذا تخللها أشياء لا تروق لها النفس، أصلح نفسك تصلح لك محدادتك ومعايرك، تسابق مع نفسك في مضمار الصدق والإخلاص ورحلة الوصول إلى الله، لم تصل العام الفائت، قد تصل اليوم، السباقات تتكرر ونفسك واحدة، فلا تضعها في مضمار لا يليق بلقائك مع الله يوما…
روى النسائي عن شداد بن الهاد، عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن رجل من الأعراب _لم يُعرف اسمه_، كان حديث عهد بالإسلام، لكنه كان على وعي وفهم أهلّه لينال ما تمنى نتيجة صدقه.
حضر في غزوة، فلما منّ الله عليهم بالنصر قسّم النبي _عليه السلام_ الغنائم، وكان لهذا الرجل نصيب، فلما أحضروها له، قال: “ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي _صلى الله عليه وسلم_”، فأخذه عائدا إلى النبي يستفسر عن هذه القسمة، فقال النبي أن هذه قسمته، فقال الرجل: “ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى هاهنا – وأشار إلى حلقه – بسهمٍ فأموت فأدخل الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك”.
فخرج بعدها لقتال العدو، فعادوا به محمول وقد أُصيب في الموضع الذي أشار عليه، فسأل النبي إن كان هذا نفس الرجل، فردوا بالإيجاب، فقال النبي: “صدق الله فصدقه”.
والصدق هو مطابقة الظاهر للباطن، ويزيد على ذاك الإخلاص في القول والعمل، وقد تجد من كذّبه الناس وصّدقه رب الناس، وقد ترى النقيض أيضا…
لكن لسان الحال يقول أن هذا الشهر فرصة لتجديد العهد، لبداية قد تكون سببا لبدايات وفتوح أخرى تنتظرها منذ زمن، أقبل بقلبك على الله، تجده يُقبل عليك بكله، كن صادقا في الطلب يكن كريما في الوهب، كن ملحاح السؤال، يكن واسع الإجابة، كن شغوفا مخلصا، أفرغ قلبك مما حوى وأتعب واملأه برب القلوب، فكم من سائر تعثر بجسده لكن قلبه كان على طريق الوصول، وكم من قلب زاغ وانحرف… بعضها أدرك نفسه وأنقذها وبعضها خاب وخسر…
قد لا نستطيع تحديد نوايانا ووجهة أفعالنا وأقوالنا أو على أي رصيف نقف؛ على برّ أمان أم نوشك على الغرق، لكننا نحاول… ونسير إلى الله بقلب يخشى غضبه ويرجو محبته.
لو ندرك مرة جوهر الإخلاص والتعامل مع الله بنفس صدوقة، جميعنا بلا استثناء، هل فكرنا يوما ولو على وجه خاطر سريع، يلسعنا ويمضي، يذكرنا بشيء نلقاه في آخرتنا، أن كل هذه الأعمال لمن؟ ولماذا؟ هل جربنا أن نطرح على أنفسنا سؤالات في جلسة مصارحة مع النفس؟ إن الكيان ليهتز حين تكتشف أن ما كنت تفعله عمرا قد ينهار بلحظة حين تكتشف أنك كنت تفعله لشيء فانٍ لا باقٍ..
وقال تعالى _جلّ وعلا_ في سورة الحجرات: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}.
حين كان الجهاد في عهد النبي _عليه السلام_ جهاد أموال ونفوس فيُعرف فيه الصالح من الطالح، حين كانت النفوس تُبنى في حضرة النبي، فمن لم يستطع الجهاد بنفسه، كان يجاهد بماله أو بما يستطيع فعله، كل ذاك فقط ليختبر الله صدق من آمن به!
لو أخذنا المعنى البعيد ل”أنفسهم”، لا نتحدث عن الرباط والجهاد في ساحات المعارك العملية، لننظر لمعاركنا التي في صدورنا، نحاصرها بسؤال خفيّ “لمن سبيلي وجهادي؟”
يهون كل شيء إذا عرفنا لمن نسير ولماذا، لشخص سيكون وبالًا عليك في آخرتك؟ أم لدنيا لا تساوي عند رب الدنيا جناح بعوضة؟ لنفسك التي لا تملك لها نفعا ولا ضرا؟ أم لله الذي يملكك كلك ولا تستطيع فعل شيء دون أمره؟
أذكر وصية الصدّيق للفاروق حين استخلفه: ”إنّ أوّل ما أحذّرك نفسك التي بين جنبيك”.
إن الأهداف تصبح سخيفة إذا ربطتها بنوايا فانية، والأهداف الصغيرة التي تبدأ من خطوة أصغر، قرار بسيط لا يساوي شيئا عند المخلوقات لكنه عظيم عند الخالق، لو جعلت نفسك لله… لله فقط، لا لمخلوق أو سمعة وشهرة ومال أو حتى لك، ستجد كل الأشياء تسير إليك ولو حبوًا!
لو مددت يديك مملوءة بالصدق مع الله، سيعديها مليئة بصدق رضاه!
لتعلم أن المعاملة مع الله تفوز دائما…