خارت قواها وأثقلتها الهموم ولم يعد جبروت الأم سميرة عبدات (أم سائد) يعينها على حمل ابنتها المقعدة زهور ونقلها من مكان لآخر داخل البيت وهي التي فعلت ذلك مرارا، ففقدها لنجلها الشاب وديع أثَّر فيها وهدّ كيانها.
وهي ابنة 14 عاما تزوجت أم سائد المنحدرة من قرية عورتا قرب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية من قريبها محمود عبدات (57 عاما) وأنجبت 7 أبناء، 5 منهم يعانون من الإعاقة، أشدهم زهور التي أصيبت بشلل دماغي أقعدها وحدّ من نموها جسديا وذهنيا وحرمها النطق.
قبل شهر غيَّب الموت وديع عبدات (27 عاما) وغابت معه حكاية واحد في أسرة تنوعت إعاقات أبنائها بين ذهنية وأخرى في السمع والنطق وثالثة في الحركة ورابعة جمعت بينها كلها، فضلا عن مرض أصاب الزوجين وتجاهلاه قصدا ليسير مركب حياتهما ويسير معه حلم عاشته الأسرة منذ أكثر من عامين بمشروع ريادي يغنيها عن سؤال الناس ويُؤَمِّن احتياجاتها.
ألم العائلة
في غرفة نوم أم سائد المجاورة لغرفة الجلوس اختصرت أنَّات زهور مشهد المعاناة، فهي في عمرها العشريني بدت كطفلة رضيعة تستلقي على ظهرها فوق سرير أطفال وتطلق صرخاتها الممزوجة بالبكاء لطلب حاجتها أو تبث شكواها من الألم.
وتقول أم سائد إن هذه طريقة ابنتها زهور في التعبير حيث توصف إعاقتها بأنها الأصعب بين أبنائها، ما ضاعف معاناتها في توفير حاجاتهم وعلاجهم، وتضيف “زرت جل مستشفيات نابلس ومراكزها العلاجية المتخصصة، فضلا عن مستشفيات الأردن والداخل الفلسطيني المحتل”.
لم تستطع أم سائد حبس دموعها وهي تخبرنا حكاية وجع تسكنها منذ ولادة أبنائها، وتقول وقد تحلق بعضهم حول شقيقتهم المقعدة لمداعبتها والتخفيف من آلامها “تختصر زهور حجم مأساة نعيشها منذ سنوات طويلة”.
لنحو عقدين من الزمن بعد زواجها ظلت أم سائد تسكن في بيت قديم لم يكن مؤهلا ولا حتى “يصلح للسكن الآدمي” وهو ما ضاعف معاناتها ومرض أبنائها.
تسجل محافظة نابلس حوالي 8500 حالة إعاقة بينها 600 أسرة لديها أكثر من إعاقة، ويعاني معظمها من الفقر الشديد وانخفاض فرص العمل وغياب دور المؤسسات الرسمية عنها.
حواجز وصعوبات
تناست أم سائد أمراضها وأخطرها الديسك والتفتت لمعاناة أولادها وزوجها “شبه المقعد” وراحت تجوب أراضي القرية تزرعها وتفلحها وتربي المواشي لتعيل أسرتها قبل أن تهتدي وعبر مؤسسة داعمة للتدريب حول إدارة المشاريع والتخطيط لها.
تخطت السيدة الخمسينية كل الحواجز الاجتماعية والظروف الاقتصادية الصعبة لأسرتها والتحقت وعشرات من نظيراتها الأمهات قبل عامين بالتدريب العملي لأكثر 120 ساعة، ثم ما لبثت أن فازت بمشروع ريادي حول الطبخ المنزلي وإعداد الطعام الشعبي.
وحصلت أم سائد على دعم مالي بنحو 10 آلاف دولار أميركي ابتاعت بها أدوات الطبخ وهيأت المكان وانطلقت بأمل كبير لتحقيق حلمها وتحسين وضعها الاقتصادي، مستعينة بأبنائها ولا سيما المرحوم وديع وزوجته وابنتها الكبرى شادية.
ومع مرور الأيام، كبر مشروع أم سائد وكبر معه حلمها وذاع صيتها في قرى مجاورة ومدن بالضفة الغربية، واشتهرت بأطباقها الشعبية المطلوبة للمنازل والمناسبات في الأتراح والأفراح، وهي لا تزال تستذكر أولى تجاربها في الطبخ لنحو 300 ضيف شاركوا في عرس ابن شقيقتها.
طهت حينها أكثر من 40 كيلوغراما من اللحم مع المنسف (اللبن المطبوخ) البلدي، ثم انطلقت لإعداد “الفوارع” (أمعاء البقر والضأن) إضافة لعمل المعجنات والمشاركة بها في المعارض والبازارات النسوية وتلك المهتمة بالمشاريع الريادية.
كانت أم سائد قوية في مشروعها كما هي في حياتها ولم تُعجزها تحديات كبيرة وأهمها “التنافس” في مجتمعها الريفي حيث كثرة مطابخه وتنوع أكلاته.
ولم يُعقها رعاية أبنائها وتوفير متطلباتهم خاصة زهور التي تحتاج لطعام معين وطريقة خاصة لتناوله، أما الأدوية فقد تتوفر حينا وترجأ أحيانا كثيرة، فهي لا تقدر على توفير 700 دولار أميركي شهريا ثمنا للعلاج.
تقاطع شادية الابنة الكبرى لأم سائد الحديث وتطرح أفكارها حول تطور المشروع ليغطي مناطق أوسع، وتقول إنهم يعملون على تنويع الطعام وأدوات تسويقه.
آفاق التطور
واسترسلت حديثها وقد تجاوزت بخيالها حدود يافطة دعائية علقت عند مدخل المنزل وصفحة عبر الفيسبوك، وتقول “سنذهب للمطبخ بكل زواياه، الطبيخ والمعجنات والمخللات والمكابيس بأنواعها”.
ويعملون كذلك لتسهيل خدمة التوصيل لزبائنهم، ويجتهدون لتوفير عربة لزوج أم سائد ليقوم بالمهمة، فهو سيحال للتقاعد من وظيفته في المجلس القروي بعد بضعة أشهر كما يسعون لتغطية حاجة المؤسسات والمتاجر من الطعام أو لهم شخصيا.
وبالمفهوم الواسع للإعاقة، يعاني أكثر من 320 ألف فلسطيني منها وتقدر نسبتهم بحوالي 7% من المجتمع الفلسطيني، وبالرغم من نص القانون الفلسطيني على تشغيل 5% منهم في الوظيفة العمومية فإن نسبة البطالة بينهم تتجاوز 85% وفق مجدي مرعي أمين سر الاتحاد الفلسطيني العام لذوي الإعاقة.
وفي هذا الصدد، تبذل ريم الظاهر -ومعها أمهات يدرن جمعية “أصوات” لدعم حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة الذهنية- جهدا لتوفير مشاريع مستدامة وذات أثر اجتماعي لأسر ذوي الإعاقة خاصة في ظل “تقاعس” المؤسسات الرسمية المعنية عن دورها في دعمهم.
وتقول الظاهر للجزيرة نت إنهن دربن 50 سيدة في التخطيط والإدارة ومولن 8 مشاريع، حظيت أم سائد بواحد منها. وتضيف أن الهدف هو تحفيز الأمهات نفسيا وتوعيتهن بحقوق أولادهن فضلا عن تمكينهن اقتصاديا.