عاطف دغلس
بعفوية تجلس فوق أريكتها في زاوية الغرفة وتحمل بين يديها طبلا مزخرفا بقطعة قماش حمراء اللون ومزينة بـ”الدناديش” المُذهبة، ثم تضرب بأصابعها فيخرج رنين جميل رفقة صوت حاد هو كلمات مغناة يصدح بها لسان السيدة الفلسطينية حلمية الجلال (أم سامر).
هذا المشهد معتاد في الآونة الأخيرة لدى أم سامر، ففي مساء كل يوم جمعة ترتدي زيها التقليدي وتجتمع رفقة بناتها وزوجات أبنائها والجارات في منزلها ثم ينطلق لسانها ولساعات يُغنِّي من لبِّ التراث الفلسطيني بفصاحة وبلاغة قلَّ نظيرها.
ببساطتها وخفة ظلها المعهودة استقبلتنا أم سامر بمنزلها في قرية فرعون قرب مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية وأتحفتنا بأغان خصصتها لنا، فجمال هذا الفن في بديهته وسهولة سرده وتبديل الكلمات وخاصة الأسماء بما يتناسب وجو الأغنية مع الحفاظ على المعنى.
أم البلد
وأدمنت أم سامر كما روت للجزيرة نت سماع الأغاني التراثية ولما تبلغ العاشرة من عمرها وحفظتها كلمة ومعنى، وصارت تردد ذلك في كل مناسبة اجتماعية تحضرها كالعرس أو ختان الأطفال أو العودة من السفر والاستسقاء والحصاد، وأكثرها حضورا كانت الأعراس.
رفقة والدتها والمسنَّات كانت حلمية الجلال أو “أم البلد” كما يسمونها تطوف بيوت الأهالي في أي مناسبة فرحة وتصغي جيدا لتخطف من بين شفاههن أعذب الكلمات المغنَّاة وتحفظها عن ظهر قلب لفظا ومعنى.
وأضحت بذلك حافظة للأغنية التراثية الفلسطينية، فراحت تُصدِّرُ ما تحفظه للجمهور عبر مقاطع فيديوهات تسجلها وتبثها في حسابات أنشئت باسمها على مواقع التواصل المختلفة.
عدنا بأم سامر للوراء قليلا لنعرف سر ظهورها المفاجئ فأخبرتنا أنها وقبل عامين شاركت بحفل زفاف في قرية مجاورة، وهناك صوَّرتها إحدى المدعوات وبثت المقطع عبر مواقع التواصل لينتشر كالنار في الهشيم وكانت الأغنية مبارزة بين الفتاة البيضاء والسمراء:
قالت السمرا واحنا الهرايس (حلوى).. واحنا المحارم بايد العرايس
وقالت البيضا وأنا المرايي (المرآة).. وأكبر متوظف بيجي تلاييي (عندي)
ومنذ شهرين عادت وباشرت أم سامر بتسجيل المزيد من الأغنيات وبثها عبر اليوتيوب وصفحات أخرى أنشأتها بمساعدة حفيد لها لتحصد آلاف المشاهدات، فأنتجت نحو 40 مقطعا بمعدل 10 دقائق لكل واحد ولا يزال في جعبتها الكثير الذي تعمل على تحضيره.
حب وحرص
ولا تفسير لذلك إلا حب السيدة وحرصها لبقاء هذا الفن حاضرا خشية اندثاره وسط أغان توصف بأنها “دخيلة وفارغة المضمون” يُراد لها أن تحل مكان القديم “ولو بالقوة”، إضافة لوفاة النسوة الكبار الحافظات لهذه الأغاني التي تكمن أهميتها بتناقلها من جيل لآخر سماعيا.
وتعد الأعراس آخر معاقل الأغنية الشعبية التي تغني بها النسوة الفلسطينيات ومنهن أم سامر، فالمناسبات الأخرى التي ولدت لها ومعها تلك الأغنيات تلاشت جُلها وأبرزها استسقاء المطر والحصاد والمواليد الجدد، لكن أم سامر ما انفكت تتمتم بها في حلها وترحالها، حتى وهي تقوم بأعمالها المنزلية.
وفي العرس تأتي “التعليلة” وهي أيام غنائية تسبق حفل الزفاف النهائي، حيث تغني النساء بداية السهرة للعريس وأمه ثم تغني للعروس مقاطع ثانية، وفي نهاية التعليلة تسعف النسوة أنفسهن بأغنيات “دلعونا” و”زريف الطول” و”العتابا”.
وكل هذا تعرفه أم سامر وتردده وتغنيه ملحنا وهي تضرب بأناملها فوق طبلتها التي اختارتها بعناية لهذا الغرض، كما يفترض بمن سمع قول أم سامر أن يردِّدَ وراءها وإلا غادرت القاعة، فالترديد يعني ديمومة الأغنية الشعبية وحفظا سمعيا وفق ما تغنى.
ويُميز أم سامر رغم “تأخرها” حسب وصفها تفردها في توثيق الأغنية الشعبية التراثية المتناقلة شفهيا ونشرها عبر مختلف مواقع التواصل.
عبر اليوتيوب والفيس بوك والتيك توك والإنستغرام أكثر من 100 ألف متابع لأم سامر رغم حداثة عهدها، وهو ما يعزوه حفيدها محمد عبد اللطيف لتشوق الفلسطينيين خصوصا المغتربين لهذه الأغاني وطلب المزيد منها.
تقع على محمد تسجيل الفيديوهات ومنتجتها عبر الهاتف ومن ثم نشرها وترجمة الكلمات المنطوقة لمكتوبة إضافة للرد على استفسارات الجمهور.
المطلوب كبير
ويضير أم سامر غياب المؤسسات الرسمية وعدم تبني هذا اللون التراثي، والاعتماد على باحثين منفردين ومؤسسات أهلية في تخليد تلك الأغاني.
يؤكد ذلك حمزة عقرباوي الباحث في التراث الفلسطيني الذي يقول إن الأغاني الشعبية وخاصة النسوية تعيش بالتناقل الشفاهي وأن الخطر بات يتهددها فعلا بعد تراجع تداولها وتقاعس الأجيال الجديدة في حفظها، فضلا عن أن التوثيق أصبح عملا فرديا فعله بعض الكُتاب أمثال نائلة لبِّس وعبد اللطيف البرغوثي في مؤلفاتهم، أو عملا مؤسساتيا محدودا.
ومن واقع معاش في حياة المرأة الفلسطينية بكل تفاصيلها في بيتها وأرضها وبالمناسبات المختلفة من الحصاد والمطر والغناء للطفل قبل النوم وأول مشيه وخروج أسنانه، باتت الأغنية الشعبية تقتصر على الأعراس فقط وتتناقلها من تبقت من المسنَّات، ولهذا فدور أم سامر أو من ينتهج طريقها يعد رياديا لحفظ هذا الإرث.
والتراث كما يقول عقرباوي للجزيرة نت يعيش بالتداول لا بـ”المتحفة” التي تميته رغم أنها توثقه، فهي “تنقله من طور الحياة بين الناس لطور الحفظ داخل الكتب”، وإن المطلوب توثيق تلك الأغاني كما تُتداول سماعا ولحنا وليس كتابة فقط.
والمطلوب برأيه قيام المؤسسات الرسمية بدور حقيقي في جمع كل الموروث الغنائي على اختلاف مناطقه بين القرى والمدن والبادية وتوثيقه، إضافة لوضع هذا التراث بسياق قابل للتداول من قبيل جمعه بغنائه وإيقاعه وإعادة تقديمه للأجيال بطرق مختلفة عبر المنهاج المدرسي والفعاليات المختلفة.