رام الله– الحياة الجديدة- ميساء بشارات- من خلف باب الغرفة يرسل الطفل ماجد ذو الأربعة أعوام قبلات يعبر فيها ببراءة الأطفال الى أمه المحجورة في إحدى غرف المنزل ويبكي ماما بحبك، ماما متى بدك تطيبي؟ ماما بدي تحضنيني وأنام جنبك.
مرت الأربعةَ عشر يومًا على آلاء عيسى “أم ماجد” كأنها 14 عاما، عاشت خلالها غير أعراض الإصابة بفيروس كورونا، صراعًا مريرًا بين خوفها على أطفالها من الإصابة بالفيروس، وبين رؤيتها لهم يبكون لحاجتهم اليها، كادت تضعف في بعض اللحظات أمام مشهد توسلهم إليها، لكن حرصها عليهم وخوفها من نقل العدوى إليهم انتصرا، حتى انتهت فترة الإصابة والحجر بسلام، نسيت خلالها آلام المرض وأعراض الإصابة أمام مشهد أطفالها المتباكين طلبًا لحضنها واحتضانها.
تقول أم ماجد: “لم أستطع إبعاد رضيعي البالغ من العمر سنة وشهرين عن حضني، لكني عزلتُ نفسي عن شقيقته وشقيقه الأكبر سنًّا، خوفًا عليهما، رغم إلحاحهما للاقتراب مني، وما كان يشغل بالي إضافة الى خوفي عليهم رعايتهم وإطعامهم، رغم أن زوجي كان يساعدني بأعمال المنزل ورعايتهم، لكنه ولأنه اول مرة يتولى هذه المهمة كانت صعبة عليه”.
ولا يختلف حال ميس الريماوي عن آلاء كثيرًا، فقد جمتهمعا الإصابة بالفيروس وهي أم لطفلة لم تتجاوز العامين، كان قرار إبعاد رضيعتها عنها أمرًا في غاية الصعوبة المسكونة بتلابيب الألم، لكنها كانت تحضنها مجبرة، لتعلق الرضيعة بها، والخوف يتملكها، وتقوم برعايتها وهي ترتدي القفازات والكمامة خوفًا عليها من الاصابة.
تقول الريماوي: “قبل إصابتي كانت طفلتي تنام بحضني وخفت ان تكون مصابة لذلك فضلت عدم إرسالها لأحد من اهلي وابقاءها معي محجورة في المنزل”.
وتعتبر الريماوي نظرة الازدراء من المحيط تجاه المصابين بالفيروس أشد إيلامًا من الإصابة نفسها، وفي ذلك تشترك معها أروى عرار التي أصيبت بالفيروس، تعرضت خلال فترة الإصابة لأكثر من موقف ترك أثرًا سيئًا في نفسها، من ذلك –كما تقول أروى-، أن ضيفًا جاء لزيارة زوجها وعندما علم بإصابِتها اعتذر وغادر البيت مسرعًا”.
أروى عرار ابنة إحدى قرى محافظة رام الله والبيرة، أم لثلاثة اطفال، أصغرهم اقل من ثلاثة أعوام، تمكنت من حجر نفسها عن أطفالها بعد إقناعهم بخطورة المرض وضرورة الابتعاد عنها خلال فترة الحجر.
تقول عرار: “حاولت جاهدة إبعاد أطفالي عني خوفا عليهم من المرض، لكن الصغير يحتاج لحضني ولم نستطع منعه الاقتراب مني وهو يراني، فهذا ما أنساني أعراض المرض وألمه”.
وتضيف: “رغم خصوصية الإصابة بفيروس كورونا والحرص على عدم نقل الإصابة الى المحيط وخصوصًا الأطفال، لا تستطيع الأم الامتناع عن القيام بواجباتها البيتية، فهي تبقى ملزمة بها، لذلك الأم المصابة بالفيروس تعاني أكثر من الرجل، لأنه لديها مسؤولية كبيرة داخل منزلها، وتجاه أطفالها لا تستطيع إهمالها”.
ورغم أعراض المرض وتوابعه والآلام المصاحبة له، إلا أن عرار تمكنت من تدريس طفلها الأكبر وحضرته للامتحانات الدراسية. تقول: “كان يجلس آخر الصالة بعيدًا عني وكنا نرتدي الكمامات وأدرسه كل الدروس لانني لا أستطيع إهماله، ولا أحد غيري يستطيع القيام بذلك”.
ومن نفس كأس المعاناة، شربت زهراء قباجة الأم لثلاثة أطفال التي أعادت الفحص مرتين بعد ظهور الأعراض عليها، لتكتشف في المرة الثانية أنها مصابة”.
لكنها قباجة كانت أشد حرصًا، فمنذ ظهور الأعراض، وقبل إجراء الفحص، لم تتخلَ عن ارتداء الكمامة والقفازات في منزلها أثناء قيامها بالأعمال المنزلية، تقول قباجة: “منذ بدء الاعراض كصعوبة التنفس، وارتفاع في درجات الحرارة، والسعال الجاف والصداع الشديد، عزلت نفسي عن باقي أفراد أسرتي، وساعدني بذلك زوجي الذي كان له الدور الأكبر خلال فترة الحجر فقد أخذ اجازة من عمله وجلس مع الأطفال”.
وبعد تجربتها المريرة مع المرض، تنصح قباجة بأخذ الحيطة واتباع إجراءات السلامة والوقاية من العدوى بالمرض مثل ارتداء الكمامة والقفازات والتباعد الاجتماعي، خاصة من لديهم أطفال او كبار في السن.
وتتمثل الأعراض الأكثر شيوعاً لمرض كوفيد-19 في الحمى والإرهاق والسعال الجاف. وقد يعاني بعض المرضى من الآلام والأوجاع، أو احتقان الأنف، أو الرشح، أو ألم الحلق، أو الإسهال.
وللآباء أيضًا نصيب من معاناة الإصابة بالمرض، المصور الصحفي عصام الريماوي الذي أصيب بالفيروس يرى مشهد وقوف أطفاله على باب غرفته يريدون تقبيله واحتضانه، وهم يرتدون الكمامات ويعدون الأيام بساعاتها ودقائقها ليعود يلاعبهم ويجالسهم ويداعبهم أشد إيلامًا من أعراض المرض نفسه.
الريماوي الذي عزل نفسه بغرفة داخل المنزل، حتى انقضاء فترة الحجر، كان شديد الخوف على نقل العدوى لباقي أفراد أسرته.
ويشير انه في البداية اعتقد انه مصاب برشح عادي، وصداع نتيجة شم الغاز خلال تغطيته للتظاهرات ضد الاحتلال الاسرائيلي، لكن الألم استمر ثلاثة أيام ليتبين انه مصاب بالفيروس. وينصح الريماوي بعدم الاستهانة بالمرض وضرورة أخذ الاجراءات الوقائية خوفا من العدوى لأنه في أغلب الأحيان لا يعرف الشخص من أين جاءته الإصابة.
ولم تقتصر معاناة الأم في زمن كورونا بين إصابتها وخوفها على أطفالها من الإصبابة وبين صراعها مع الأمومة وهي المحرومة من إحتضان أبنائها، بل تعدت تلك المعاناة حدود ذلك حين جسدت أشعار الشاعر المصري حافظ إبراهيم حين قال: “الأمّ مدرسةٌ إذا أعددتها.. أعددت شعباً طيب الأعراق»، إلى واقع، فجائحة “كورونا”، وما فرضته من ضرورة التعلم عن بُعد، أصبحت الأم، المدرسة والصف والمعلم، بعدما أسندت إليها أعباء العملية التعليمية لأولادها كاملة، فتحمّلت الأمهات أعباء جديدة، ضاعفت من أدوارها السابقة، وبات عليها اليوم أن تتابع تعليم أولادها وهم يخوضون تجربة «التعليم عن بُعد» للمرة الأولى، بل إنها تؤدي وبنجاح أدوار المعلم والمشرف التعليمي، والمشرف الاجتماعي، في وقت ربما يكون لديها أكثر من ابن وابنة في مراحل التعليم المختلفة يتلقون دروسهم في الوقت نفسه”.
تشترك الأمهات والآباء في كثير من تفاصيل معاناة الإصابة بفيروس “كورونا”، مثلما يتشاركون أيضًا في الحرص الشديد على عدم نقل الإصابة لأطفالهم، ولذلك كل من مر بهذه التجربة المريرة ينصح بعدم الاستهتار وأخذ الحيطة والحذر والإلتزام بأدوات السلامة العامة، لكن معاناة الأمهات مضاعفة، بين آلم المرض، والخوف على الأطفال، والقيام برعايتهم وتدريسهم.