أ.مروة معتز زمر
(اليوم العالمي للسكان.. من العدّ والتعداد إلى العدالة)
يحتفي العالم اليوم، باليوم العالمي للسكان، مناسبة أُمَميَّة وُلدت من رَحم القلق الكبير الذي خلفه التزايد السكاني السريع حيث أُعلن رسمياً عام 1987عن وصول عدد سكان العالم إلى خمسة مليارات نسمة.
وفي 21 كانون الأول من عام 1990، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 45/216، معلنة أن يوم 11 تموز من كل عام يُحتفل به كـاليوم العالمي للسكان، ويهدف هذا اليوم إلى تسليط الضوء على القضايا السكانية الحيوية التي تؤثر بشكل مباشر في مسارات التنمية، ومنها:
(الصحة الإنجابية، الحقوق الإنجابية، معدلات النمو السكاني، تحقيق المساواة بين الجنسين، ظواهر الهجرة والنزوح، العدالة الاجتماعية، وضمان شمول الفئات المهمشة في الإحصاءات الرسمية).
لكن خلف هذه الأرقام المتصاعدة، يكمن ما هو أعمق من النمو الديمغرافي: أسئلة وجودية عن العدالة، عن الرؤية، عن الشمول، عن الإنسان الذي يُعدّ لكنه لا يُرى.
السؤال الذي يطرح اليوم في 2025 وقد تجاوز عدد السكان عتبة الثمانية مليارات، كم من هؤلاء يملكون هوية آمنة، وبيتاً داخلياً، ونصيباً من كرامة السياسات؟
كم من طفلة تُدرج ضمن الإحصاءات، لكنها تُستثنى من المدرسة؟
وكم من أمّ تُعدّ في تعداد السكان، لكنها غائبة تماماً عن خدمات الرعاية والدعم؟
كم من معاق يُعدّ ضمن السكان، ولا يُحتسب في فرص العمل أو التعليم أو الحركة؟
وكم من رضيع يُضاف في إحصاءات الولادة، بينما يُولد في بيئة خالية من الأمان والصحة والغذاء؟
كم من مُسنّ يُدرج في بيانات الدولة، لكنه لا يُدرج في جدول الرعاية؟
كم وكم وكم وكم؟؟؟؟؟
*العدالة السكانية أن تُحسب لأنك إنسان، لا لأنك رقم
هي ليست مجرّد توزيع عادل للأعداد، بل هي اعتراف شامل بحقّ كل إنسان في أن يُرى، ويُحسب، ويُخاطَب في السياسات والخدمات والقرارات، بغضّ النظر عن جنسه، عِرقه، طبقته، حالته الصحية، أو موقعه الجغرافي، هي أن لا تكون الأرقام أدوات سلطة، بل جسوراً تُوصل إلى الفئات المهمشة، أن لا يُترك اللاجئ خارج دفتر التخطيط، ولا الفتاة خارج جدول التمكين، ولا الطفل خارج خريطة الرعاية.
إنها مبدأ يُلزم الحكومات والمنظمات أن تتبنى سياسات عامة تقوم على أسس من الإنصاف، والشمول، والكرامة الإنسانية، بحيث لا يُقصى أحدٌ من الاعتبار، ولا يُسلب فردٌ حقه في الوصول إلى التعليم، والصحة، والدعم النفسي، والحماية.
أن تُحاسب العدالة السكانية الحكومات إن تجاهلت المهمّشين، أو جعلت من الإحصاء أداةً للتجميل بدلاً من أن يكون بوابةً للإنصاف.
أن يُنظر إلى الإنسان لا بوصفه قيمة اقتصادية أو رقماً في جدول، بل باعتباره كائناً حيّاً له حاجات وانفعالات وصدمات وطاقات.
*وتتحقّق العدالة السكانية عندما:
تُبنى السياسات على بيانات دقيقة وشاملة لا تستثني أحداً، وتُراعى الفروقات بين الفئات العمرية، والأنواع الاجتماعية، والمناطق الجغرافية وأن يُتاح للجميع الوصول العادل إلى: التعليم، الصحة، الدعم النفسي، الأمن، وأن تُسمع أصوات المهمّشين وتساهم في صنع القرار
وفي قلب هذه الرؤية العادلة، يقف صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) بوصفه أحد أبرز الفاعلين العالميين في مجال السياسات السكانية والإنصاف الإنساني، حيث تجاوز دور الصندوق مجرد دعم خدمات الصحة الإنجابية إلى ما هو أعمق من خلال: تقديم الدعم النفسي الاجتماعي والصحة النفسية للفئات الأكثر هشاشة، خاصة النساء والفتيات في مناطق النزاع والأزمات.
ولأن التحديات تتفاوت في حدّتها واحتياجاتها، اعتمدتUNFPA إطاراً عملياً مرجعياً يُسمى:
هرم التدخلات النفسية الاجتماعية (ISA-C)، وهو نموذج يوزّع التدخلات النفسية إلى أربع طبقات متصاعدة:
.1الخدمات الأساسية والدعم العام
.2الدعم المجتمعي غير المتخصص
.3الدعم النفسي المركّز
.4العلاج النفسي المتخصص
من خلال هذا الهرم، لا تُقدَّم الرعاية النفسية كترف، بل كحقّ سكاني أصيل، تُوفَّر له الموارد، والتدريب، والسياسات اللازمة.
إن برامج UNFPA تُعيد الاعتراف بإنسانية الفرد، وحقه في التوازن والطمأنينة، في أقسى ظروف العالم.
وفي اليوم العالمي للسكان، علينا أن لا نُراكم الإحصاءات فقط، بل مؤشرات التعافي، ومعدلات الكرامة، ومساحات الأمان النفسي، ففي نهاية المطاف، ما قيمة النمو السكاني إن لم يكن نمواً في العدالة؟
وما جدوى التعداد إن لم يُرافقه احتواء؟
فلعل أول خطوة في تحقيق العدالة السكانية… أن نحصي الألَم أيضاً.