رفيف عودة
فلسطينية الأصل, من بلدة بيتونيا قضاء رام الله, خرجت من بيت تحيطه الأشجار من كل مكان, الى حلم لطالما فكرت فيه العديدات واعتبرنه مستحيلا, حلمت منذ نعومة أظافرها أن تصبح كابتن طيّار, فشجَّعها أهلها وإخوتها الثلاث, بكونها البنت الوحيدة بينهم, وآخر العنقود التي جاءت بعد أخيها الأصغر باثني عشر عاماً. فَتَذكُر قول والدها “عبد الرؤوف عودة 65 عاماً” وهي صغيرة: “طالما تريدين دراسة الطيران, فستدرسينه مهما كلفنا الأمر” وتضيف والدتها “نجية عودة”: “بالإصرار والمثابرة تحققين المستحيل.” شجعوها, وكانت كلما تذهب لزيارة إخوتها في أميركا, كانت تذهب لقمرة الطيَّار للدردشة مع كابتن الطيَّارة ومساعده, تتعرف عليهم ويعرِّفوها على كيفية قيادة الطائرة بطريقة بسيطة وكلمات سهلة تدخل عقل طفلة في عمرها.
عَشِقَت وتعشق الطيران, سافرت الكثير وزارت العديد من الدول, ومرة من المرّات كلَّمت كابتن أجنبي وعرَّفته على نفسها قائلة: “أنا طفلة فلسطينية, إسمي رفيف عودة وأحب الطيران وأريد دراسة ذلك” واستمرت في التواصل معه على الهاتف والبريد الإلكتروني حتى فآجأها مرة قائلاً: “حدثت عنك رئيس أكاديميتنا وقال أنَّه مستعد لإعطائك منحة لاستكمال دراستك بذلك حالما تكبرين وتتخرجين من المدرسة.”
سعدَت كثيراً. مرَّت الأيام حتى كبرت وكبرت أحلامها أكثر. سافرت لأميركا لاستكمال دراستها الثانوية هناك, لكنها سرعان ما عادت لأرض الوطن لأنها لم تستطع العيش في أميركا قائلة: “تأكدت من آخر زيارة لي لأميركا أنها دولة ممكن زيارتها لبضعة أيام ولكن ليس للعيش فيها أو حتى المكوث فيها أشهر أو سنين.”
أصبح عمرها ستة عشر عاماً, في الصف الثاني عشر علمي, صارحت أهلها كون نظام التوجيهي متخلف بنظرها وما هو إلا وسيلة من وسائل الاستعمار خاصة في كونه معقد وليس معترف به دولياً ولا يعادَل مباشرة أمام أي نظام دولي ولا يجد هناك حاجة لتقديمه, طال النقاش بينهم حتى وافقت على تقديمه من أجل أهلها, ولكنها لم توفق بسبب إكمال في مادة الأحياء وأصرت عدم تقديم امتحان الإكمال لان دراسة الطيران لا تعتمد عليه بل على نظام أمريكي قدمته وحصلت على علامة تؤهلها لدراسة ما تريد. مضيفة: “أريد الدراسة في الأردن الشقيق كونها دولة عربية تتشابه بعاداتنا وتقاليدنا ليس مثل الدراسة في دولة أجنبية لا أثق بأي شيء فيها” بحثت في أكاديميات الأردن حتى وجدت أكاديمية الطيران الأردنية.
“أريد دراسة الطيران في المملكة الأردنية الهاشمية أمي,أبي. لقد وجدت أكاديمية لدي كل متطلباتها إلا أنَّ كلفتها 75 ألف دولار” فقال لها أبوها أن هذا مبلغ كبير وليس بمقدوره على ذلك, محاولاً إقناعها دراسة تخصص معقول وشيء يُمَكِنها من البقاء والعيش في الوطن خاصة في ظل غربة أخوانها الثلاثة, حاولت قدر استطاعتها أن تقنعه وأن تعمل وهي تدرس لتساعد أهلها بالقسط حتى رد أبوها قائلاً: “سأجعلك تحققين حلمك وأن أدفع قسطك كاملاً شرط أن لا تعملي وإذا عرفت مرَّة أنَّك حاولت البحث عن عمل, ودُّعي حلمك” فرحت كثيراً وملأت عيناها دموع الأمل التي سترى بهما سماء لا تحدها حدود من خلف مقود طائرة.
“ذهبت مع أمي للأردن للتسجيل, ودفعت أول دفعة من المبلغ, والتقيت بكبار الدكاترة والمعلمين في الأكاديمية ورحبوا بي كثيراً خاصة في كوني أول شابة فلسطينية تبدأ بدراسة هذا المجال, وسألوني إن كنت أملك جنسية أخرى لصعوبة دراسة ذلك فقط بالجنسية الفلسطينية لعدم امتلاكنا مطار دولي بسبب الاحتلال, فأجبتهم بأني أملك الجواز الأمريكي ولكن لا يشرفني الدراسة عليه, بل أريد الدراسة على الجواز الفلسطيني لأني متأكدة أننا سنحرر بلادنا يوماً ما قريباً وسنعيد افتتاح مطارنا بعد نقاش حاد, اشترطوا أن أقدم عدة امتحانات مستوى, وإن نجحت, يتم قبولي, فكان ذلك بمثابة تحدي نجحت به فاضطروا لقبولي فاستكملت باقي الإجراءات.”
ذهبت واستقرت في تلك الغرفة الصغيرة التي استأجرتها في الأكاديمية, غرفة مع نافذة صغيرة تطل على مطار ماركا الكبير, تقف عليه كثيراً شاردة الذهن, ترى حلمها أمامها, ما عليها إلا أن تبدأ بحضور محاضراتها واحدة تلو الأخرى لمدة سنتين بالإضافة إلى ما تعشق من امتحانات الطيران ما بين العقبة وعمان بدايةً وخاتمة ذلك بامتحان الوزارة للطيران وحدها من مطار العقبة إلى مطار اليونان.
“اليوم أقف على عتبة تفصل بيني وبين تخرجي أربعة أشهر كي أبدأ بعدها العمل في بوابة السماء… في مطار عمان الدولي, كي أبدأ منه تحقيق الأحلام والتحليق عالياً, رافعةً رأس أهلي الذين أحبهم ولولاهم لما تمكنت من الوقوف هنا اليوم, ورأس كل فلسطيني …” وأضافت: “يا عالم, لا تكتفوا بأحلامكم التي ترونها ولا تلمسونها وأعينكم مغمضة أثناء نومكم, بل حاولوا قصارى جهدكم لتحقيق ذلك الحلم إلى حقيقة تلمسونها وتعيشونها… لا حدود لطموح يُعمل عليه.
تدربت رفيف في الإمارات على الطيران لعامين 2014 و2015 وهي الآن كابتن طيار تجوب الفضاء ممثلة حلم الكثيرات من الفلسطينيات الطموحات.