من المفترض أن يكون خبر الحمل من الأخبار التي تفرح قلب كل امرأة، فاكتشاف أنك ستصبحين أماً يعتبر حلماً للكثير من النساء. لم أتخيل أبداً أن أول شعور سيغمرني عند اكتشاف هذا الخبر هو الإحباط، ليس لأنني لا أرغب بالإنجاب، ولكنني خططت لحدوثه في المستقبل وليس الآن، فأنا أهوى التخطيط لكل تفاصيل حياتي. عندما رأيت نتيجة اختبار الحمل إيجابية شعرت بالصدمة والمفاجأة، لم تكن السعادة ردة فعلي الأولى، بل شعرت بالخوف والضياع والقلق، وأصابتني نوبة ذعر في الحال. الأمر كان بالعكس تماماً بالنسة لزوجي وعائلتي الذين كانوا في غاية السعادة. في الواقع، لم أرهم بهذه السعادة من قبل، وقد كنت سعيدة لسعادتهم.
ربما الماضي الذي عشته لعب دوراً كبيراً في ردة فعلي، وسأروي لكم قصتي بشكل مختصر لأنها طويلة بعض الشيء. منذ حوالي عامين، تعافيت من اضطرابات نفسية متعلقة بالإفراط في تناول الطعام. وبالرغم من كل الوقت والجهد الذي كرّسته لحل مشكلتي والتعافي منها نفسياً وجسدياً، إلا أنني ما زلت أعاني من مشاكل كبيرة في تقبل شكل جسمي، أو مما يسمى ”عقلية اضطراب تناول الطعام“.
وبسبب هذه المشكلة أصبحت أعاني من حالة نفسية مزمنة، ألا وهي الاكتئاب. وبالرغم من حصولي على المساعدة المتخصصة لعلاج اضطراباتي الغذائية لكنني لم ألتزم بها تماماً، لكن في النهاية تمكنت من الالتزام بالعلاج لمدة سبعة أشهر قبل أن أكتشف أنني حامل. بعد ثلاثة أشهر من بدء العلاج المكثف، شعرت وأخيراً أنني بدأت بالعودة لطبيعتي مرة أخرى. لم أصدق الأمر، ولم أشعر بهذه السعادة منذ أكثر من ست سنوات، إذ كنت قد وصلت لمرحلة كدت أفقد الأمل فيها، إلا أنني حققت ذلك وتعافيت بشكل كامل. كنت قد نجحت في اكتشاف الطريقة لحب الذات والثقة والسلام الداخلي وكل تلك المصطلحات التي كنت قد قرأت عنها في جميع كتب الدعم النفسي. كما اكتسبت مجموعة كاملة من المهارات التي ساعدتني في التعامل مع كل ما يعترض طريقي. وعرفت كيف أدخل السلام لنفسي وكيف يمكنني أن أطفئ النار المشتعلة بداخلي بفضل إيماني بذاتي. وما كان سابقاً يدخلني في حالة اكتئاب وحزن لأسابيع عديدة أصبح يستغرقني يوماً واحداً للتعامل معه وتقبله وتخطيه. كنت أتعرف على نفسي أكثر وأشاهد التطور الذي أحرزه واكتشفت أن معرفة الذات والتصالح مع النفس هو من أجمل المشاعر التي يمكن أن يشعر بها أي أحد على الإطلاق.
شعرت في أعماقي وكأن حياتي قد سُلبت مني وكل شيء يتهاوى من حولي
سأعود الآن إلى تلك اللحظة التي اكتشفت فيها أنني حامل. بعد أن شعرت بالإحباط الشديد، حاولت جاهدةً أن أحول هذا الموقف إلى أحد التحديات التي اعتدت التغلب عليها. قلت لنفسي : ”بإمكاني تجاوز ذلك“ ”لم يتغير شيء. ولن يتغير شيء“ لكن وبغض النظر عن عدد المرات التي كررت بها هذه الجمل في ذهني بقي شعور الاكتئاب مصاحباً لي. أصبح الأمر يزداد سوءاً مع بداية أعراض الحمل، ربما كان الأمر أصعب لأنها تجربتي الأولى وكنت جاهلة تماماً لكيفية التعامل مع الحمل. وبسبب الهرمونات التي تتدفق في جسمي، كنت منتفخة لدرجة مؤلمة ولاحظ الجميع أنني حامل بعد مرور ثمانية أو تسعة أسابيع فقط. شعرت بالإحراج وحاولت جاهدةً تقبل واقعي الجديد، لكني شعرت في أعماقي وكأن حياتي قد سُلبت مني وكل شيء يتهاوى من حولي.
شعرت بالعجز المطلق. منطقياً حينها كان الوقت المثالي للحمل، إذ كنت في الثانية والثلاثين من العمر وصحتي جيدة وحياتي رائعة ومستقرة. ولكن كل التغيرات الجسدية التي أشعر بها ونمط الحياة الجديد الذي ينتظرني، أشعرتني بالرعب والضياع. كنت أنام لأكثر من 17 ساعة في اليوم وأبكي لأيام طويلة إلى جانب تناول كميات كبيرة من لفائف الجبن المشوي والسكاكر لتقليل نوبات الغثيان التي تستمر طيلة اليوم. أصبحت حساسة جداً تجاه كل شيء حولي، ما وضع عبئاً على علاقتي مع زوجي. ولم أتمكن من تمييز حاجاتي أو حتى عواطفي، وذلك الإنجاز الذي كنت قد حققته في معرفة ذاتي، تلاشى كلياً.
لأشعر نفسي ببعض الراحة، أصبحت مهووسةً بمقارنة نفسي مع غيري النساء الحوامل. كنت أخجل من التعبير عن مشاعري الحقيقية والتحدث عن تجربتي، لكن كنت أسألهن عن تجربتهن مع الثلث الأول من الحمل، وكل ما كان يسجله عقلي المنهك كان تجارب الحمل السعيدة التي يعشنها بين معدل الغثيان القليل أو عدمه، وعدم الرغبة بتناول الطعام، واكتساب وزن قليل فقط، الأمر الذي جعلني أشعر أني غريبة ووحيدة في ذات الوقت. وبالرغم من أنه من غير المقبول اجتماعياً التعامل مع الحمل بهذه الطريقة وهذه المشاعر، لكنني لم أتردد في اللجوء لعائلتي، علّني أحصل على بعض التعاطف والدعم، ولكن ذلك سبب خيبة أمل كبيرة بالنسبة لي، فهناك كان علي تقبل رفضهم لما أمر به وأنه علي ألا أفكر بهذه الطريقة وأن أكون ممتنة لهذا الحمل بالنظر إلى عدد النساء اللواتي يحلم بالإنجاب لكن لا يستطعن. وبهذا أضيف شعور جديد إلى قائمة مشاعري المضطربة، الذنب.
عرفت في أعماقي أن هذه المشاعر ليست نتيجة الهرمونات فحسب، وأنه يجب علي طلب المساعدة، لكن كبريائي كان يمنعني. كان من الصعب علي تقبل فكرة أنني سأخضع لعلاج الاكتئاب مرة أخرى بعد أن تجاوزته بشكل نهائي. وبالرغم من كوني مدربة نفسية أدعو دائماً لعدم السماح للاكتئاب بالسيطرة على أفكارنا، إلا أنني سمحت له، اعترفت بالاكتئاب وعانيت منه وسمحت له بالسيطرة علي كلياً. في النهاية قلت في نفسي ”يجب أن أجد حلاً، ولا أحد غيري يمكنه فعل ذلك“. استغرق مني الأمر أياماً من التحدث مع نفسي والتفكير والبحث عن تبرير منطقي وإدراك مشاعري. أردت أن أسمع اعتراف الآخرين بسوء وضعي، وتمنيت لو أن الجميع يتفقون معي، يبدو الأمر وكأنني أحاول أن أبدو ضحية لنفسي، لكن في الحقيقة لم يكن الأمر كذلك إذ أدركت أن ما كنت أشعر به كان مبرراً تماماً.
أولاً، لقد تعافيت تماماً من اضطرابات التغذية، والأهم من ذلك سنوات من الاكتئاب. ثانياً، لقد تصالحت مع نفسي للمرة الأولى وأصبحت قادرة على اكتشاف نفسي. وثالثاً، كنت قد اكتشفت عشقي لمجال التدريب الصحي الشامل والعملي بعد سنوات من الدراسة، وكنت قد امتلكت الثقة الكافية لأبدأ عملي الخاص. وبالطبع لم أكن مستعدةً لهذا التغيير، لم يكن لدي الوقت الكافي لتخصيصه للحمل والإنجاب والأطفال، كنت أستعد للقيام بالخطوة الأولى في بناء مستقبلي وحياتي الجديدة.
وبإعطاء نفسي كل التبريرات التي أحتاجها، وصلت إلى الاستنتاجات التالية التي منحني كل منها شعوراً مختلفاً يمزج بين القلق والراحة في الوقت ذاته.
أولاً: مهما حاولت التخطيط لحياتي بذكاء ودقة، فستواجهني العقبات دائماً في طريقي، وهذا أمر طبيعي في الحياة الواقعية، إذ لا يمكنني السيطرة على كل شيء. ثانياً: بمجرد إنجابي لطفلي، سيتغير ترتيب قائمة أولوياتي، لكنني لقد أحرزت الكثير من التقدم والتطور على مر السنين، فلماذا أتوقع أنني لن أتابع بهذا التطور؟ ثالثاً: قد تكون هذه من أصعب التجارب التي مررت بها في حياتي كلها، وعلى الرغم من صعوبة ذلك إلا أنني سأتعلم الصبر والتقدير الحقيقي لجسمي مهما كان شكله. سأتعرض للكثير من التجارب التي تعتبر اختباراً صعباً لكل من عانى من اضطرابات التغذية، لكنني سأتقبل ذلك بكل رحابة صدر، أعرف أن وزني سيزداد شيئاً فشيئاً وسأختبر مجموعة من التغيرات الجسدية التي تدخلني في دوامة من الاكتئاب العميق. بعد إدراك كل تلك الحقائق وتقبلها والإيمان بها، صرت أعرف التحدي الأكبر الذي علي مواجهته. كان هذه الطريقة الأمثل للخروج من الدوامة التي كنت أعيش فيها.
اجتزت الآن أكثر من ثلثي فترة الحمل، وأنا صامدة. لقد ازداد وزني، وتضاعف حجم ثديي ثلاث مرات الامر الذي زاد الإجهاد المطبق على ظهري، كما ظهرت بقع حمراء في أنحاء وجهي وجسمي بالكامل، ولدي الكثير من الدهون في جسمي، إلى جانب سماعي لطنين دائم في أذني اليسرى، وخوف يكاد لا ينتهي من الدخول بمرحلة اكتئاب ما بعد الولادة.لم يكن الأمر سهلاً، إلا أنني تعلمت دروساً قيمة من الكآبة التي رافقتني حتى الثلث الثاني من حملي. السماح لنفسي الشعور بالحزن والألم وعدم الراحة بدلاً من محاولة أن أكون تلك الإنسانة المثالية طيلة الوقت، هو ما ساعدني إلى استيعاب كل تلك الصعاب في نهاية المطاف. ومع ذلك، ها أنا اليوم، أنظر للأسفل وأضع يدي على بطني الذي مازال يكبر، وأهمس لابنتي كيف استطاعت منذ الآن تغيير حياتي إلى الأفضل.
سارة مالكي مدربة في المجال الصحي الشامل والمتكامل، وتتخذ من دبي مقراً لها.