همُّ الكُلفة، همٌ آخر أضيف لمشاريع الزواج في فلسطين، بعد أن كانت ليلة العمر مقرونة بالفرح، على أمل بالاستقرار في المؤسسة الزوجية الجديدة، التي تعدُّ الأكثر ترابطًا وعراقة منذ ما قبل نشوء الملكية الفردية، وصار لكل رجل امرأته الخاصة، ولكل فتاة رجلها الأوحد.
كان الزواج في مجتمع ريفي فقير ومحدود الموارد يخضع لعملية حسابية، يختار الأهل من خلالها زوجة لابنهم، تتمتع بصفات تتناسب مع بيئتها العاملة
ارتبطت تقاليد الزفاف في المجتمع الريفي الفلسطيني منذ القدم، بعدة غايات عائلية، يقوم الأهل من خلالها بربط ابنهم في البيت، ولمِّه بعيدًا عن عادات التسكع في الحارات والحقول كأقرانه العزّاب، ومن ثم إلقائه في أُتون الحياة، وصقله تحت اختبار تحمُّل المسؤولية، وغالبًا لحثّهِ على السعي وحيدًا أو بمشاركة زوجته في الأعمال الزراعية. ولذلك كان الزواج في مجتمع ريفي فقير ومحدود الموارد يخضع لعملية حسابية، يختار الأهل من خلالها زوجة لابنهم، تتمتع بصفات تتناسب مع بيئتها العاملة، مثل القوة الجسمانية القادرة على العمل الزراعي، بالإضافة لخيار آخر روحي، ألا وهو الصبر وتحمُّل نائبات الزمن إذا ما أقبلت.
بعد ذلك، تبدأ الإعدادات البسيطة لليلة الزفاف، والقائمة على إشهار الفرحة وإشراك أهل القرية فيها، فيقام حفل التعليلة المسائي البسيط في ساحة البيت، (سميّت ليلة التعليلة، كناية عن تعليل النفس بالأمل وإنعاشها به)، يجتمع فيها كل رجال القرية تقريبًا، دون دعوة، على أنغام الزجل، والأهازيج الشعبية، في حلقة “سحجة” دائرية تشبه الطواف، ثم تتحول حسب الإيقاع إلى ساكنة، فيلتئم الرجال كلٌّ حول زجّاله المفضّل، مُشجعين، ومناكفين بعضهم بعضًا، لتحفيز “الحدّاء” كي يجود بأبلغ ما لديه، إلى أن ينفضّ السامر، ألف مبروك وتمت على خير.
لم تكن تلك الليلة -كما يُروى- مكلفة من جهة القائمين على العرس من حيث المهر، وأجرة الحدّائين، والطعام المقدّم للمدعوين، باستثناء الأغنياء والإقطاعيين ذوي القدرة، أما الأسر المتواضعة فكان بمقدورها أن تقيم ليلة حسب إمكانياتها دون لوم، ومن دون أن تُهمل أيًا من أساسيات الضيافة، مثل تقديم طعام خالٍ من الدسم، وإقامة حفلة يحييها إثنان أو أكثر من الحدائين المحليين الذين يجدون حضورهم واجبًا مستحقًا عليهم. وعندما يأتي الحدّاء بالأجرة وبالحجز المسبق، كانوا يتقاضون أجرًا زهيداً لا يعيق اكتمال الفرح، فلم تكن ظاهرة (النجوم) من الحدّائين والمغنين الشعبيين قد بزغت بعد، على الرغم من هالة الشهرة التي أحاطت ببعضهم. وإلى الآن ما زالت بعض الأسماء إذا ما أتت من الذاكرة تصدر رنينًا لا يمكن تجاهله.
الأسر المتواضعة فكان بمقدورها أن تقيم ليلة حسب إمكانياتها دون لوم، ومن دون أن تُهمل أيًا من أساسيات الضيافة
الفرحة المشتراة
مع انتهاء فصل الشتاء، تمتلىء الليالي الصافية بالألعاب النارية، معلنة بدأ موسم التزاوج، وتصدح الموسيقى في سماء الأحياء، لتحل مكان البرق والرعود المبللة بالمطر، ويخرج الناس من بياتهم الشتوي، راقصين ومطبلين ومشاركين حتى منتصف الليل، ثم مع انقضاء الشهر الأول من فصل الصيف، يبدأ الوهج بالخفوت، وتقتصر مشاركة الناس بالبقاء في الحفلة لمدة لا تزيد عن ساعة، مقسمة ما بين تناول طعام العشاء حيث هناك كاميرا توثّق وصول الضيف، وتقديم واجب النقوط والتقاط صورة مع العريس، ومن ثم الدوران مرة أو مرتين في في حلقة السحجة بعدما يضمن ظهوره على كاميرا الفيديو الرئيسة، ومن بعدها يطرق عائدًا إلى بيته “ليالي الصيف قصيرة.. والناس وراها شغل بدري”.
ويبقى الحضور مقتصرًا في العادة بعد الساعتين الأوائل على المقربين جدًا من أهل العرس، طربين للمواويل التي تُحيّي وتمجّد من يطلب منه والد العريس -بالوشوشة- تمجيده، والأهم التغني بكرمه، وهكذا… إلى أن ينتهي الحفل عادة بعد منتصف الليل بقليل. ليس هناك تسعيرة محددة رسميًا لأجرة محيي الحفلات، إذ تتراوح في حالة وجود مغني شعبي ما بين 7 آلاف شيقل، وتصل في بعض الأحيان إلى 20 ألف شيقل، عندما يكون المغني نجمًا مخضرمًا وله باع في الفنون الغنائية الأخرى، كأن يجمع بين موهبتي الغناء والزجل في آن.
أمّا التسعيرة الأن فتكون محددة من قبل المغني نفسه، بحسب الطلب عليه، وكمية الحجوزات المسبقة، وتقل هذه الأجرة تلقائيًا حسب الظروف السياسية العامّة (ليست الظروف الاقتصادية هي المعيار)، ففي أثناء الانتفاضة، كان إشهار الفرح بالرقص والغناء يعد جنوحًا لأهل العريس عن الخط العام لمشاعر المجتمع، وإلى فترة بعدها، أخذت الأجور مستواها الطبيعي، ولم تكن تتجاوز الثلاثة آلاف شيقل، أمّا في أثناء الركود الشعبي، فاتخذت الأجور منحىً تصاعديًا، لتظهر على الساحة مواهب إضافية صارت من مستلزمات الحفل، مثل فرق الدبكة أو (السحجة) ذات اللباس الموحد، والتي تتلقى أجرًا يدور حول الألفي شيقل على وصلة لا تتجاوز الساعة الواحدة، وصار حضورها -على الرغم من أن الضيوف بثيابهم الغير ملفتة للنظر يقومون بذات الدور مجانًا- يضاف للأعباء المادية في أغلب الأعراس، وصار وجودها يسد ثغرة من ثغرات البطالة في صفوف منتسبيها، مثلها مثل الألعاب النارية التي أصبحت البديل الصوتي للأسلحة التي كانت تطلق رصاصها في الفراغ العلوي تعبيرًا عن الفرح.
كان إشهار الفرح بالرقص والغناء يعد جنوحًا لأهل العريس عن الخط العام لمشاعر المجتمع
خروج الفرحة من البيت
حافظ المجتمع الفلسطيني على معظم العادات التراثية في الزواج، ولكن بقفزة حداثية باهظة التكاليف، تحمل من البهرجة الظاهرية أكثر مما تحمله من العمق والواجب، فصار الأهل يجنحون إلى الراحة، حتى أصبح المثل الذي يقال لمن يتخلى عن مسؤولياته أو للامبالي: “قاعد مثل أم العروس” ينطبق على أم العريس أيضًا، بصفتها دخلت عالم الاتيكيت واقتصر دورها في استقبال المهنئات وتلقي التهاني، بعد أن كانت تحمل العرس كاملًا على كتفيها، وحلّ محلها اليوم فرقة من الطباخين، أتوا بأدواتهم الجاهزة للطهو والتقديم، وفرقة أخرى من معدي القهوة وتقديمها بفناجين كرتونية، يتقاضى هؤلاء ما يقارب الخمسة آلاف شيقل، وأحيانًا أكثر بكثير، نظرًا للمنطقة الجغرافية المقام فيها العرس.
ففي شمال الضفة الغربية الذي يتخذ طابعي الريف والمدينة، تكون التكاليف أقل من الجنوب، حيث الترابط العشائري الممتد. ففي أعراس الجنوب، يُنحر في ليلة الفرح ما يقارب الأربعة عجول (1200 كيلوغرام من اللحم) بتكلفة تقترب من مبلغ الخمسين ألف شيقل، بينما في الشمال، فيمكن أن يقل الاستهلاك إلى الربع، وليس الربع بقليل، في مجتمع غير مستقر وجلّ اعتماده على العمل اليدوي، دخل مرحلة التحوّل الحداثي في الاستهلاك، بينما حافظ على بدائية الانتاج.
فتسهيلات البيع والشراء لم تعد تحتاج إلى الدفع النقدي، ما جعل العمّال باليومية، أو الطبقة الدنيا تنافس الطبقات العليا بالتجهيز، فبإمكان أي شخص شراء ما يشتهي عبر الشيكات الآجلة، بزيادة 10% عن السعر الأصلي، ومقسطة على سنوات، دون حساب لعواقب نائبات الزمان إذا ما أقبلت، ما وضع الكثير من المتزوجين بالدَّين تحت طائلة القانون بعد مرور أشهر من إتمام الزواج، فمعظم العرسان يدخلون مزاد البهرجة وهم لا يملكون 20% من رأسماله، وخاصة في الريف؛ حيث السجن الاجتماعي واطئةً أسواره، ومبنيٌّ على التقليد، تحتل فيه العادة مكان المعنى.
كما بات الاستثمار في الأعراس من أنجح الاستثمارات في قطاعات السوق، فانتشرت في كل الأنحاء محلات فساتين الزفاف، تحتاج العروس إلى فستانين، تقوم باستئجار كل واحد منهما ليلية واحدة، تدفع مقابلهما ما لا يقل عن الخمسة آلاف شيقل، ومن ثم تعيدهما للمحل، فيقوم المحل بتأجيرهما ثانية -بعد الغسيل والكي- بنفس السعر، وهكذا.. (علمًا بأن ثمن الفستان الواحد لا يزيد عن الألف شيقل مستوردًا من الصين أو تركيا).
تقول إحدى الحجّات من اللائي عاصرن البساطة: “القاعة أخذتْ الفرحة من البيت”
كما دخلت موضة قاعات الأفراح على خط الاستثمار، بعد أن كانت العروس تحتفل في بيت العائلة، صارت تلك العادة من الماضي، عُلل الأمر بداية بضيق مساحة البيت في حضرة الزائرات، ثم صار وجود القاعة من المُسلّمات غير الخاضعة للنقاش، تُستأجر بسعر أقله خمسة آلاف شيقل في المدن وتصل بعض القاعات (الخمس نجوم) إلى سقف الخمسة عشر ألف شيقل، يدفعها العريس مقابل ساعة أو اثنتين بين جدرانها، ومن دون أن تغنيه عن إحياء سهرة غنائية، وطعام باذخ، واستئجار منصة وأعمدة للإنارة، وألعاب نارية، وجولة تصوير ثالثة يظهر فيها -للتاريخ – كل زوايا الفرح.
تقول إحدى الحجّات من اللائي عاصرن البساطة: “القاعة أخذتْ الفرحة من البيت”، بدا ظاهرًا من تعليقها وهي تركب سيارة حفيدها، للسفر بها إلى القاعة، أنها تؤمن بأن السعادة مرتبطة بمكانها، ولا تنتقل مع الإنسان حيثما انتقل.
مراجعة
ليست مراجعة خاصة بمحتوى النص، ولكنها المراجعة التي يجريها العريس بعد ليلة أو اثنتان من الفرحة الباهظة الثمن؛ وبعدما يضع أولى قدميه على أرض الواقع. وفي عملية حسابية قد تكون متأخرة، يكلّف العرس المتوسط بالإمكانيات التي ذكرناها سابقًا، ما لا يقل عن مئة ألف شيقل، ناهيك عن المهر (متوسطه: من 3-5 آلاف دينار أردنيّ) فالمهور لم تعد عائقًا أمام الزواج مثلما كانت فيما مضى، لأن الشكوى من غلاء المهور خفتت حدتها، نظرًا لارتفاع وتفوّق تكلفة الكماليات الأخرى. ولو قدرنا أن يومية العريس، موظفًا كان أو عاملًا، تساوي 250 شيقلًا يوميًا، وهي أجرة نادرة، فإنه سيحتاج عامًا بكامل أيامه وإجازاته وإضراباته، لأجل ليلة العمر التي صار لها مقاس فصلّه الأغنياء، وارتداه الفقراء، على الرغم من أن بعض المتزوجين عجزوا عن تسديد الأقساط، فقامت شركات الأثاث أو البنوك بالحجز على مقتنياتهم قبل انتهاء شهر العسل!
يحدث هذا في ظلِّ منافسة ومناكفة بين أناس يبحثون عن المساواة الظاهرية في كل شيء، تحت شعار “لا أحد أقل من أحد”. بينما استطاع البعض الخروج من هذه الورطة، بإقامة عرس واقعي، يناسب مقاسه، وهؤلاء العاديون لم نتحدث عنهم ههنا، لأن أفراحهم الخاصة ليست للنشر، ولا هي مفصلّة على مقاس المديح الشفوي.
عنان العجاوي
صحافي من مدينة جنين -صحيفة الترا فلسطين