يوسف الشايب
صدر، مؤخرا، عن دارة الاستقلال للثقافة والنشر، مجموعة “كتابة الصمت” (ديوان أنائيل يتبعه بروفايل للسيد هو) للشاعرة الفلسطينية نداء يونس، يرافقه لوحات للفنان الفلسطيني الراحل مصطفى الحلاج، أحد مؤسسي الحركة الفنية التشكيلية الحديثة، فيما صمم لوحة الغلاف الفنان الفلسطيني محمد سباعنة.
وأهدت يونس مجموعتها الجديدة “إليه، الذي أراه مرآة لا أحملها”، لافتة إلى أن “الصمت تمرين في الحب”، وإلى أن “أنائيل” تعني “أنا هو”، وهي كلمة مكونة من ضمير المتكلم بالعربية وضمير الغائب بالفرنسية، هي التي استخدمت في عديد نصوصها كلمات وظفتها بدقة من لغات أخرى.
وكتب الشاعر المتوكل طه، عن مجموعة “كتابة الصمت”: أراني أمام صوفيّة جديدة للجسد، تكوّنت مع تحوّل النرجس أشباحاً في دم الشاعرة، وفي لحظة يصير دمُها هو ذاته المنفى، ولعلها صوفيّة تتغيّا رموزاً غير معهودة، على عكس ما ذهب اليه الصوفيون القدماء. فالشاعرة أمام رجل شهيّ، كأنه ذئب في خزانتها والمفتاح ليس معها، وقد أغلق الحبُّ البابَ على أصابعها. بمعنى أنّ هذا المُراد الذي ينبغي أن يزِخّ بأمطاره الساخنة ليروي عطشَها، هو غير متاح، ما يفسّر حزنها الذي هو الكاتب في هاتين المجموعتين الشعريتين. ولهذا فإن الثيمة الرئيسة في هذه النصوص تكاد تكون الحرمان أو العطش، حتى أصبح فمها قدحاً جافاً، وأحلامها تعجُّ بالوحوش، وأنّ الظلال التي تجمّعت في بيتها، بلا دعوة، راحت ترقص وحدها، وأضحى الزمنُ ممحاة، وراحت تجلس عارية في حوض الغياب.
وأضاف: إن الإلحاف على فكرة الظمأ وحرمان الجسد من نعيم التزاوج والارتواء ،هو ما جعل كلمات الشاعرة مدهونة باللهب، مثلما جعلت الموج يلهث على شواطئها وليس في أعماقها ، أو أن البحر الذي عبر الضفاف غفا على ذراعها لكنه نام في مكان آخر، حتى أن الشاعرة وصلت الى لحظة اليأس التي أيقنت معها أنه لن يجيء ، فوسوست لنفسها “ليته لا يجئ”. وهذا يفسر أسئلتها الحارقة عندما تقول “أين تنام الحديقة، وسريره مزروع بالحبق”، كأنه حبق لغيرها، أما السرير، فقد علّمها قديماً أغاني اللغة.
وستدرك الشاعرة، وفق طه، أنّ الحُبّ الطافح في كأسها انكسر قبل أن يمتلئ، فوجدت أن الحلم هو المكان الأكثر أمناً، مثلما الندم آخر الأشياء التي لا معنى لها.. أما النار التي تدبّ في مساماتها وتحتاج إلى ذلك الماء، فإنها نار صاخبة ضاجَّة، حيث أن الأغاني، على رأي الشاعرة، هي وحدها مَن يستطيع أن يكون أقلّ ضجيجاً.. من هنا، تقول الشاعرة بأنها تعلّمت المحوَ وليس الكتابة، مثلما تمتم الصمتُ في رأسها، وأنّ داخلها يصلي إلى قِبْلة الصمت.
وشدد المتوكل طه على أن “الشاعرة التي تتشقّق جفافاً وعطشاً ورغبةً محمومة، هي التي أضاءت سراجاً في حقول الله لعلها تعثر على نبع فوّارٍ، لكنها وجدت نفسها مثل سراب في صحراء لم يعد منها سواها، رغم إدراكها أن الماء الذي في قربتها، ولم يشربه أحد ، فعطشت روحها، كان كافياً لتحقيق المعنى العميق للارتواء أو على رأي الشاعرة: الحكمة. تلك الحكمة التي لم تتحقق ما دام المُنادَى لا يسمع، والماء المطلوب لم يأتِ، والجسد البعيد لم يفرد قوادمه على جسدها الظمآن، الى أن أضحى كأساً أخيراً لن يدفع أحد ثمنه”.
وختم بالتأكيد على أن “نداء يونس، صاحبة القاموس الثري، تثبت من جديد أن نصّها واحد من التجارب التي تعطي شرعية لقصيدة النثر، رغم قدرة الشاعرة الفذّة والمفاجئة على اجتراح الايقاع، فقصيدة “نشيد” مثلاً، تؤكد على أن هذه الشاعرة ذهبت من سمائه وامتلاك ناصية القوافي، بروح حداثية لافتة، إلى فضاء الكتابة على منوال النصّ النثري”.
ومن أجواء المجموعة:
“أيتها النار أو جسدي،
الحب كأس ينكسر
ليس قبل الثمالة
بل قبل الامتلاء.
الغياب فصل واحد فيّ،
أنا الطائر المعلق
فوق المزارات
والرماد.
أيتها النار أو جسدي،
افتحي كتاب الوقت،
اخلعي قلادتكِ الغرانيتية،
ألقي طبائعك – وأعني صفاتي،
وتمدّدي دون أن تلتفتي
إلى الماضي.
أيتها النار أو جسدي،
يمرّ بي الشعراء والقرامطة
في الطريق إلى الجنوب،
والعرافون والحفاة والمريدون
في الطريق إلى الجنوب،
والأباطرة والرعاة
في الطريق إلى الجنوب،
والأولياء الذين يحملون الآيات
كأجساد الغرقى
ويوزعون القباب
في الطريق إلى الجنوب،
لكنني أرى شبح اللحظة
يرتدي وشاحاً ريفياً
بنقوش ملونة
ويمد يديه إلى الوراء.
لا مقبرة للوقت الذي بيننا،
ولست أعرف
كيف أشعل النار في الرماد،
ولا
كيف أشرح بالمجاز أنه حتى
الميتافيزيقيا
لم تتمكن من أن تقبض على غيبوبتي،
فيك”.