الغضبُ الناعم ومبدأ الخَيْر: قراءة نقدية
بقلم: هبه ملحم*
أتظن أنني آلة؟ بلا مشاعر؟ هل تعتقد أنني بلا روح أو قلب فقط لأنني فقيرة ووحيدة وغير جميلة… إذن أنت مخطئ، فلي روحٌ مثلك تماماً، وقلب مليءٌ بالمشاعر.. أنا لا أتحدث إليك الآن من منظور العرف والتقاليد وليس حتى من المنظور المادي، إنها روحي التي تخاطب روحك مثلما ستنطلق روحانا من القبر أمام الله متساويتين كما نحن[1].
مرحلتان عبر التاريخ تطور فيهما وعي المرأة، ارتبطت بهما كاتباتٍ اتخذن أسماءَ ذكورية مستعارة لهنّ واتسمت كتاباتهن بالغموض والسخرية غير الهادفة، كان ذلك في مرحلة الأنوثة والتي تطور فيها وعي الأنثى بمجتمع الرجل الذي يمارس القمع، يقابلها مرحلة الوعي النسوي التي تميزت كتابات المرأة فيها بصور عديدة للاحتجاج الاجتماعي والجنسي والسياسي، أمثال سارة جراند ونوال السعداوي، ويضاف إلى ذلك أنّ الأدب النسائي العربي في مرحلة الأنثى الممتدة حتى الآن تمتع بشعبية خاصة ولاقى استحساناً لكاتباتٍ أمثال حنان الشيخ، أحلام مستغانمي وغادة السمان. تعتقد غادة السمان أنّ اكتشاف آفاقٍ وحضاراتٍ جديدة أثّر سلبياً على الرجل الشرقي الذي بات يعاني من ازدواجية في الشخصية، لتجد المرأة نفسها أمام رجل يعترف ضمنياً بحرية المرأة وحقها في المساواة بسبب تأثير الحضارة الغربية عليه، وفي ذات الوقت يتمسك بفكرة الذكر المسيطر تلك التي نشأ عليها. من ناحية أخرى لقد أدانت غادة المجتمع بفتياته المنافقات اللواتي يختبئن خلف قناع البراءة، ورجاله الذين يفضلون تلك الفتيات، أما سيمون دوبوفوار فتـُدين المرأة التي تراهن بحياتها على الرجل.. الرجل فقط، وتحذرمن مغبة افتتان المرأة بجسد الرجل، لأن هذا سيزيد من (قيد القهر الذي يحيط بمعصمهنّ).
يلتقي كُلٌ من كتاب الغضب الناعم: الرواية النسوية بين العربية والإنجليزية، وكتاب تحرر المرأة: عبر أعمال سيمون دوبوفوار وغادة السمان، يلتقيان في موضوعاتٍ عدة، وينطلقان في دراساتهما من الأدب المقارن، الذي يشكل أقوى أداة فكرية وتحليلية والمساحة الأقدر على الجمع بين عوالمَ مختلفة قد تكون متناقضة في آن. وفيما يلي استعراضٌ لأبرز ما تناوله الكتابان.
تقترح الكاتبة العنود محمد الشارخ في مؤلفها “الغضب الناعم ” بنية تحررية لثورة الوعي النسوي من الأعمال الروائية، الأمر الذي تحاول طرحة من خلال اتباع المنهج المقارن والتحليلي في مناقشة ثلاث مراحل تمثلها ثلاث روائيات، فيجادل الكتاب أعمال: تشارولت برونتي وسارة جراند وفرجينيا وولف في الإنجليزية، في مقابل أعمال: ليلى العثمان ونوال السعداوي وحنان الشيخ في العربية، ليرسم بذلك خريطة لتطور الوعي النسوي كما يظهر في الكتابة الروائية، وتعتمد الكاتبة في دراستها على مئة وست وسبعين مرجعاً. نجد في هذه الدراسة أنّ تعبير الكاتبات في مرحلة الأنوثة عن الغضب هو أقرب لليأس والاستغراق في الحزن الذي يختفي وراء قناع من النعومة المفرطة في أسلوب الكتابة، أما في الوقت الذي أخذ فيه الوعي النسوي يتزايد؛ زادت معه قوة الغضب إلى درجة إلقاء النعومة جانباً وإعطاء الاهتمام الأكبر للرغبة الملحة في التعبير، ما ترك انطباعا حول كاتبات مرحلة الوعي النسوي انهن كن شديدات الخوف من أنوثتهن، ونتيجة ذلك أنهن حَرمن نتاجهن الأدبي من صفة الخيال الساحر الذي تحدده النعومة، مقابل التعبير اللاذع عن الغضب. أما في مرحلة الأنثى فقد تم تنقيح الغضب باستخدام أدوات النعومة لتحقيق التوازن الدقيق بين العنصرين لتكون النتيجة هي التوازن المترابط الناضج الذي يكون تفسيرة أكثر تعقيداً من المرحلتين السابقتين. ما يعني أنه حيثما توجد النعومة في مرحلتي الأنوثة والأنثى، تكون الكاتبات أكثر تآلفا مع هوياتهن، وتكون الجودة الأدبية أفضل.
وحسب الكاتبة فإنه إذا ما تم النظر إلى الكاتبات الإنجليزيات، يُلاحَظ أنّهن قد ابتعدن عن الأساطير النسائية وتفوقن عليها، ومع تنامي جمهور القـُراء من النساء، فقد كان لهذه “السوق النسائية ” أعظم الأثر على الأدب الانجليزي الحديث، ويأتي هذا على نقيض جمهور القراء المحدود في العالم العربي والأمية المتفشية ومعايير الرقابة المشددة، لتتضح بذلك معالم الضغوط التي تواجة الكُتّاب العرب. فيما يتعلق بتاريخ رقابة الهيئات الاجتماعية والسياسية والدينية على كتابات المرأة في العالم العربي فهو تاريخ مُشين، إذ عانت بعض الكاتبات الجريئات من تشويه السمعة والحظر والسجن، ففي الإمارات العربية المتحدة تم سجن ظبية خميس بسبب كتابة شعر وصف بتخطي الحدود، كما تم حظر أعمال حنان الشيخ ونوال السعداوي وأخريات في بعض البلدان العربية. ترى أحلام مستغانمي أنّ قرار الكتابة بالنسبة للمرأة تضمن محاور للحدود التي يفرضها المجتمع، ومن ثم أصبح رحلة محفوفه بالمخاطر.
تتوصل الكاتبة في نهاية كتابها إلى أنّ الأنوثة تتمثل في قدرتها على قبول صوت نسائي متميز والتعبير عنه، صوتٌ مكمل للرجل وليس منافس له. إن النساء في جميع أنحاء العالم ما هُنّ إلا نتاج مجتمعاتهن وليس جنسهنّ، وهُن بريطانيات أو عربيات فإنّ الإحساس بالهوية الوطنية أسبق من تلك المتعلقة بجنسهن. هذا مشابه لما قالته حنان الشيخ في لقاء مع ايفيلين عقاد عام 1983.
“هناك مبدأ الخير الذي خلق النظام والنور والرجل.. ومبدأ الشر الذي خلق الفوضى والمرأة والظلمات “.. عبارةٌ ذكرتها غادة السمان وسيمون دوبوفوار تبرهن على المكان الشاذ الذي احتلته المرأة عبر التاريخ.
إنّ كلاً من غادة السمان وسيمون بودفوار تُعدّان من أكبر وجوه الأدب المعاصر في القرن العشرين، كما أنّ مؤلفاتهما من الأكثر شهرة في العالم. ترى الكاتبة نجلاء نسيب الاختيار في مؤلفها “ تحرر المرأة: عبر أعمال سيمون دوبوفوار وغادة السمان ” أنّ أفكار سيمون بورفوار وغادة السمان كانت وليدة بيئتهما، وإن التقتا في النهاية على أمور كثيرة أبرزها أنهما تؤكدان على أنّ معركة المرأة على إشكاليتها وخصوصيتها ترتبط عضوياً بالمعركة الوطنية العامة التي يجب أن تخوضها إلى جانب الرجل، فلا ثورة بدون حرية للمرأة ولا حرية للمرأة بلا ثورة، وكلاهما أثبتتا أنّ مشكلة المرأة من بعض الزوايا تتجاوز حدود الجنس والدين واللغة الحضارة، بذلك فهي تشمل جميع نساء العالم على اختلافهن.
ترى غادة السمان أن أكثر ما تسقط به الكاتبة حين تعتبر أن معركة المرأة هي ضد الرجل وحده، لا ضد التخلف الاجتماعي العام. حين كانت حرب عام 1967 المؤشر الذي غيّر كثير من قناعات غادة السمان، من وصف حالة تمرد المرأة الجنسي في مجتمعٍ مغلق إلى وصف تمرد الرجل في مجتمعٍ تسوده العبودية، أما بعد النكسة فقد اعتبرت أنّ الرجل والمرأة على السواء؛ هما ضحايا العالم العربي البائس، بالتالي تطلب من المرأة والرجل النضال معاً ضد عدوهما المشترك- وهو حسب رأيها: الاحتلال والأنظمة العربية التي تسحق المواطن وتبقيه في حالة من الجهل والتخلف والظلم.
تؤكد دوبوفوار أنه في البلاد الاشتراكية لم تحصل المرأة على جميع حقوقها، أي أن إلغاء الرأسمالية وإبدالها بالاشتراكية لم يكن كافياً لتحرير المرأة، فالماركسية استطاعت تغيير علاقات الإنتاج لكنها لم تتمكن من تغيير أخلاقيات المجتمع وعقلية الرجل.. وفي مجموعتها “عندما يتفوق الروحي “؛ عالجت سيمون نفس الموضوع الذي عالجته في “مذكرات فتاة رصينة ” وهو التمرد ضد العائلة المسيحية والبرجوازية.
يتكون كتاب “تحرر المرأة: عبر أعمال سيمون دوبوفوار وغادة السمان ” من مقدمة وأربعة فصول، يقدم الفصل الأول مقارنة بين وضع المرأة السورية والفرنسية، فمع قدوم القرن العشرين وأفكاره الجديدة تمت إثارة صورة المرأة المسحوقة تحت قرون من الظلم والجهل، وما قامت به الحركات الأدبية والحركات السياسية آنذاك، التي حاولت تحسين وضعها، أما الفصل الثاني فيتناول وضع المرأة حسب سيمون دوبوفوار وغادة السمان، فالمرأة التي ربيت على أيدي نساء في عالمٍ أنثوي، مصيرها الطبيعي الزواج الذي يُخضعها عملياً للرجل، إذ أنّ هالة الرجولة لم تتوارَ بعد، بل على العكس فهي لاتزال ترقد على قواعد اجتماعية واقتصادية متينة- حسب دوبوفوار. يُقدّم الفصل الثالث نظرة في الأنواع الأدبية لغادة السمان وسيمون دوبوفوار، أما أشكال تحرر المرأة لدى الكاتبتان يتم استعراضها في الفصل الأخير، وتتوصل الكاتبة إلى فكرة مفادها أنّ التاريخ يثبت نضال المرأة الذي يترافق إلى حدٍ بعيد مع الصراع الطبقي، فهو يضطرد باضطراده وينحسر بانحساره.. إنها فكرة قد وافقت عليها كلا الكاتبتين، فربطتا قضية المرأة على إشكالياتها بصراع الطبقات.. “إذ لا ثورة بدون حرية المرأة.. ولا حرية للمرأة بدون ثورة “..
لقد كان لكلا الكاتبتين أسلوبٌ خاص في تناول موضوعات الكُتب، إلا أن كليهما تمتعا بالسلاسة في الأسلوب والترابط والتماسك بالفكرة والمبدأ، مما أتاح فرصة التعمق بالتفاصيل. وتظهر الجوانب الإيجابية في المؤلَفان من خلال المعلومة التي يتلمسها القارئ، سواء كـَم المعلومة ونوعها، كذلك فإن كتاب الغضب الناعم: الرواية النسوية بين العربية والإنجليزية وكتاب تحرر المرأة: عبر أعمال سيمون دوبوفوار وغادة السمان؛ يشكلان مرجعاً في عالم الأدب وللمعنيين بالدراسات النسوية. وقد بدا حرص الكاتبتين على توضيح الدلالات والمفاهيم، لنجد أنها ليست مادة فلسفية إنما تحليلية كثيفة.. هي مقاربات موضوعية شمولية منسجمة، تمكنتا من خلالها تحليل ما يجول في الأفكار من تساؤلاتٍ للتوصل إلى نتائج/ معرفة.
________
هبه ملحم
*خبرة مهنية لأكثر من 10 أعوام في المجال الإعلامي، و7 أعوام في مجال إعداد الأبحاث، و4 أعوام في مجال المشاريع والتخطيط الاستراتيجي، وكذلك مشاركة المجتمع ودراسات النوع الاجتماعي وحقوق الإنسان، وتقييم الاحتياجات. قامت مؤخراً بإعداد كتاب بعنوان: واقع الإعلام الثقافي في فلسطين وأثره على تشكيل الوعي الجماعي، قيد النشر وحفل توقيع الكتاب سيكون على هامش معرض فلسطين الدولي للكتاب المقرر تنفيذه في سبتمبر 2022، وبناء مشروع جائزة فلسطين للصحافة والإعلام 2012، لصالح نقابة الصحفيين، برعاية سيادة الرئيس محمود عباس، وبتمويل من صندوق الاستثمار الفلسطيني والوطنية موبايل (أوريدو حالياً )، فلسطين.
[1] آر-بي. مارتن، Accents of persuasion. في عام 1966 صرح آر بي مارنت بأنّ “جين اير ” هي أول رواية أنثوية عظيمة تطالب بالمساواة بين المرأة والرجل.