كتبت: هداية صالح شمعون (*)

البيوت المبقورة الأحشاء، الأعمدة المتناثرة، الأسطح المنكسرة، الجدران المتصدعة، كيف يمكنني أن أشاهد بيوتا مقتولة وأخرى تتكئ على قلبها، كيف يمكنني أن أجدد تكرار الرواية وقتل الأطفال واغتيال أحلامهم.

مشهد عايشته مرات ومرات ولا زلت..! طفولتي نشأت يوما بيوم أرى وأعيش هذه المشاهد، أشعر بها، أشم رائحة البارود والتراب وبقايا الصواريخ الصهيونية المتفجرة، كل عام من الأعوام التي أذكرها هي أعوام ذقنا فيها ويلات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ذقنا القهر والعتمة والترويع والفزع والقلق، عشنا مع كل نفس أنه سيكون الأخير، ونحن جميعا آمنين في بيوتنا..!!

نعم شهدت عدوان العام 2008-2009 وعدوان العام 2012 وعدوان العام 2014 وعدوان العام 2019 وعدوان العام 2020 وعدوان العام 2021 2022 وعدوان مايو هذا العام، أما الآن في أكتوبر فقد شاءت الأقدار أن أكون تحت سوط القلق والاغتراب..! وكيف يمكنني أن أتجاهل أنني لم أعد أحتمل فوهة الجحيم التي أرقد عليها.!!

إنها الحرب تسحق عظام الأحبة، تأكلهم دفعة واحدة، تمضغهم مرة على مهل تبتلع يدا، وتهشم رأسا، وتتركهم مرة ينزفون، تروقها مشهد الدم المتناثر على الحيطان..!

الغراب والليل..أجى الليل

يأتي الغراب/الصاروخ زاحفا بصوت أفعى يضرب الأرض بقوة تتزلزل أعمدة البيت يئن/يترنح من المفاجأة.. تنكسر قدماه يجد نفسه معلقا في الهواء.. ثوان معدودة يهوى من سماء الأرض يتهاوى وصوت حفيف يكبر ورعد يزمجر.. يهوى على ساكنيه يحتضنهم فينصهر اللحم بأنفاسه، ويغدو ترابه عاصفة رملية تعوي.. وغبار كثيف تنمسح العيون ويسقط بيت آخر/ برج آخر/ قلب آخر

الليل كالكابوس في حياة الغزي فما يحمله غير موت ودمار وصوت انفجارات تزلزل جدرانه الآمنة. وما هو إلا صرخات أطفال لا يقوون على الكلام. وما هو إلا سواد حالك كنفق مظلم يدمي أجسامهم ويغطي وجههم بدم الجيران وربما يغرقهم في دماء أحبتهم. فما هو الليل إلا اضغاث أشلاء تقتحم صدرهم وقد تلتصق اليد بالوجه أو القدم لشخص آخر، فما هو الليل إلا ويل وفاجعة تلتهم الصغار والكبار وتمضغهم على مهل. فما الليل إلا رحيل وفقدان وأسراب طائرات غادرة تحتل سماء عيونهم..!وما ليلك يا غزة كأي ليل لمدينة تحمل كفنها وتمضي

12 عاما على عدوان 2008 في قطاع غزة | فلسطين الآن

الغربة والحرب تستعر في القلب

عن أي غربة أتحدث الحرب تغلي في الروح والجسد، تسمع كل صوت انفجار صاروخ فتفزع، تلهث خلف الأخبار والشاشة المضيئة التي لا تنطفئ، الحرب في قلبك والنزف يتصاعد حتى أقوى المهدئات لا تفلح في غربتك، أنت غريب في بلد غريب لكن قلبك مضرج بالأوجاع قديمها وحديثها، تعرف جيدا ما معنى الخبر العاجل، تعرف جيدا ما معنى الاهتزاز ما بعد الانفجارات الصاروخية..! تعرف جيدا صوت الصمت القاتل بعد الانفجار الدامي وصمم الأذن الذي يرافقك..!! تعرف جيدا أن هذا الصوت العنيف وسماعه هو الإشارة أنك لازالت على قيد الحياة، فالشهداء لا يسمعون الصوت لأنهم يطيرون يتبخرون عاجلا..!! تعرف جيدا ما معنى الفزع ما بعد الصمت القاتل، والصرخة التي تخرج من فمك لا إراديا، تجري وتركض بكل اتجاه يكون طفلك بين يديك، وتركض لتبحث عنه، تعرف جيدا ما بعد دقيقة من القصف العنيف والانفجارات القريبة..! تسمع أصوات كأنها أصوت يوم الحشر، مئات الأصوات والجميع يصرخ صوت الأقدام التي تركض ناحية البيت المقتول، والصرخات تتصاعد وين؟ بيت مين؟ الحقوا الناس..! مليان البيت..! في نازحين والبيت كله أطفال، تعرف جيدا تلك الأصوات والصرخات المفجوعة، وصوت الإسعاف يأتي من بعيد، يقترب وأنت تلهج بالدعاء، تلملم أشلاءك وتركض لماذا تركض وأنت فزع؟ لا تعرف، لا تعرف إن كان عاريا أم حافيا أم في حالة هذيان وذهول؟ من هم؟! أي عائلة؟! تقف الأسئلة كحشرجة النفس الأخير ما قبل الموت يطق قلبك في الطريق للمعرفة؟ من وبيت مين؟؟ تفاصيلك تضيق وتمر حياتك كأنها لم تكن أمام عينيك، لا يمكنك تذكر كيف كنت ذات يوم تبتسم؟ من أنت وماذا تفعل على هذه الأرض؟؟ من هي عائلتك هذا حال من يحملونه ناجيا على حمالة الإسعاف؟ مذهول ينظر يمينا ويسارا لم يفهم بعد فهو لم يسمع الصوت المتفجر..! يشير بيده خلفه وقد فقد القدرة على الكلام.؟!

تعرف جيدا أنه الفزع الأكبر والنظرات المشدوهة، والأنفاس اللاهثة وضربات القلب التي تكبر لتغطي على صوت أنفاسك، ثم فجأة تدرك أنها عائلة الجار الحبيب والجارة الطيبة، والأطفال الصغار الذين كان أطفالهم يتقافزون صباحا تلمحهم من شباك بيتك؟! تعرف جيدا ماذا بعد القصف والانفجارات تعرف أن بعضهم قد ينجو وبعضهم قد التحم مع جدران بيته المحطم، تعرف أن هنالك أيدي وأقدام تهب لمصافحتك دون أجساد أصحابها، تعرف أن أقدام ستبقى ملقاة على الأرض دون أن يتعرف عليها أحد ..! تعرف أن الصورة التذكارية لأهل البيت قد قتلت أيضا معهم، وعش الحمام الصغير قد ذاب في زحام الردم والأحجار المهشمة، تعرف جيدا أن الغبار والأدخنة ستعشعش في صدرك لوقت طويل، ويصبح وجهك شاحبا كشحوب الموت لكنك تبقى على قيد الحياة وإلا لما شعرت بكل ذلك.!

اسرائيل وحماس تلتزمان هدنة لمدة 72 ساعة في غزة - تايمز أوف إسرائيل

أمنيات مضرجة بالدماء

تعرف جيدا لما يتمنى أهل غزة الشهادة وهم قطعة واحدة..!! أمنيات الموت تتنوع لكنها تجتمع بجسد واحد وكفن يستر أجسادنا..!! هذه الأمنية ليست إلا في غزة، وسقطت باقي الأمنيات.. لا جنازة ولا قبلة وداع أخيرة ولا حزن ولا بكاء ولا خيمة عزاء واحدة رغم أنه قبر مفتوح.. فقط صمت وذهول وترقب..!!

تعرف جيدا من عشرات العدوانات التي عشتها مسبقا أن الدقيقة في غزة تعني حياة أو موت، بيت صامد أم متهاوي، دقيقة واحدة، ستون ثانية يعدها الغزيون ثانية ثانية نفس بنفس، يطق الشعر شيبا في هذه الثواني فكيف بستة عشر يوما من الحرب..!!

هل كنت ذات يوم في غزة وشهدت الحياة تحت القصف هنالك الكثير لأحدثكم عنه، الحياة تحت القصف تجعلك طائرا سريع الاشتعال، بالغضب وبالحياة معا..!! لتبقى على قيد العقل هناك عليك أن تعتبر كل دقيقة من الحياة هي هبة من الله، وأن ساعة استشهادك هي فقط مسألة وقت، وسؤال بدون إجابة يظل يطن في رأسك من أي جهة سيأتي الصاروخ؟! هل سأشعر بوهج الصاروخ المنفجر أم ستطبق جدران بيتي الجميل على صدري دون شفقة لأني صاحبها؟! هل تحتضن الجدران أصحابها وتخاف عليهم من القصف العنيف لذلك تحتضنهم كي لا يصابوا بالأذى، كمن قتلهم حبا..!! هل البيوت شهيدة وتدخل الجنة كما الشهداء.!! هل تبكي أمها وأبيها أم أنها بلا أم وأب؟!! هل بيتي الجميل الذي كان حلما حتى تحقق يحتضنني إلى حد الموت؟!! لماذا لا يعيش أهل غزة في العراء تحت المطر والشمس وتحت القصف كي لا تحتضنهم البيوت..!! لماذا على الغزي أن يعيش كل هذا الفيض من الألم وعلى مدار سنوات حياته وأبنائه؟!! لماذا ينجب الغزيون أطفالا تأكلهم الحرب وتلوك أشلاءهم أمام العالم؟؟ فوق الطاولة التي استترت كثيرا بالمؤامرات على صاحب الحق.!! والله لم تخبرني أمي حين هجروهم من البلاد أنني سأشهد ما شهدت وعاشت؟؟! لم تخبرني أمي أنهم يأكلون الأطفال ودمهم طازج، يختارونهم جماعات ينتقون الصغار الرضع والأجنة والملائكة الصغيرة التي لم تعرف بعد وحشية الاحتلال الإسرائيلي؟؟!

هل كنت يوما في غزة وسمعت وعشت ما عاشه أهلها إن لم تعيش يوما واحدا تحت القصف فأنت إنسان محظوظ وقد نجوت من الجنون المهذب..! فلا قلب يمكنه احتمال ما يحتمله من يعيش تحت القصف والهلع ولن يكون قادرا على توصيف ساعات يومه لأنه لو فعل سيفقد صوابه من الإبادة الجماعية التي يعيشها الآن.. يلهج الغزي بالدعاء عله يطفئ الجحيم المشتعل في قلبه.. وسؤال يكبر برأسه هل يرى العالم ذبحنا ويعلم أننا نذبح كل دقيقة ويقبل بهذا الذبح؟؟! هل الأوراق باتت مكشوفة لحد استباحة الدم من دول تشدقت بحقوق الانسان سنوات أعمارنا؟!!

نعم الحرب في الغربة كطعم العلقم لكنها لا تشبه أبدا أن تكون تحت القصف طيلة يومك وأنفاسك تخفت وتعلو مع صوت الانفجارات الفاجرة التي لم تترك أي رحمة لغفوة مبتورة أو راحة تذكر، فقط حياة مقهورة معلقة..!!

عام على الحرب الإسرائيلية ضد غزة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) كاتبة وإعلامية فلسطينية من غزة

ملاحظة بخصوص الصور تمت مشاركتها مما هو متوفر على جوجل لعدة وكالات ومواقع

 

هداية صالح شمعون (*)

لا يتوفر وصف.

غزة لا تريد كسرة الخبز ولا تريد شربة الماء، نعم إنه اليوم السابع عشر من الحرب الإسرائيلية المجرمة على قطاع غزة، غزة تريد أكفانا لشهدائها، هذا ما تريده غزة كفنا للشهيد والآخر لصمت العالم المخزي الذي تآمر على الإنسانية، أغمض عينيه فحفروا له قبرا في غزة..!!

مشهد أول: عائلة في كفن واحد.!

كفن أبيض يتكور على ذاته، كبير وقد لفه الناجون بشكل كروي يختلف عن كافة الأكفان الأخرى من حوله، تقترب أكثر منه بينما رائحة الموت تنتشر في المكان، كتب عليه أسماء عائلة بأكملها، إنهم يلتصقون ببعضهم البعض فحين قذفت الحمم الصاروخية بيتهم انصهروا وباتوا أكوام لحم، لم يتمكن المنقذون من فصلهم بفعل الاحتراق عن بعضهم البعض، إنهم ستة أفراد باتوا معا كما كانوا معا وهم أحياء!! لقد التصقت أكتافهم بصدورهم بحضن الأم ويدي الأب الحانية، لقد كفنوا في كفن واحد، عائلة بأكملها في كفن واحد خشية أن تلاحقهم صواريخ القهر والإرهاب الإسرائيلي فتماسكوا وانهالت الأتربة عليهم في قبر واحد.!.

مشهد ثان: الحضن الأخير..!

تضم إلي حضنها كفن أبيض، كومة بيضاء طويلة تضم ابنا أو بنتا..!! إنها أم ملتاعة ترتدي الجلباب الطويل تبدو كقطة سرقت لحما لأطفالها حتى تطعمهم، لكنها أم سرقت كفن ابنها لتضمه إلى صدرها بقوة، انهارت فزعا وفقدا وجلست القرفصاء تتشبت أيديها وكل ذرة في كيانها بالجثمان، تشمه وتبكي، إنه كعويل الفقد الذي لا يشبه عويل، كذئب جريح مسه السهم المدبب كخنجر يذبح القلب، كانت الأم بعينين منهارتين قد سكتت عن الكلام وعن العويل وأغمضت عينيها وهي تحتضن الجثمان لكبدها وتبتعد عن هذياني وكل العيون الفضولية من حولها في المشفى..!!

مشهد ثالث: جنازة مترفهة

ثلاثة شبان يحمل كل منهم كفنا أبيض كتب على كل منها اسم ثلاثي باللون الأسود، عقدت كلا طرفيه مربوطا خشية أن يركض الشهيد في لحظة ما، يمشي خلفهم عشرات الشبان بينما خلفهم أكوام البيوت المنكوبة المدمرة، الشوارع كأنما بقرت بطونها، تشقق الأسفلت، تصدعت الأرض من حولهم، كانوا يمشون كأنهما هنالك من نبت لهم أجنحة فأصبحت الجنازة تسير بسرعة كبيرة ناحية المقبرة التي لم يعد فيها متسع لمزيد من الشهداء، بحثوا عن أي شواهد حتى لو ظل أحد الناجين وجاء يوما يعرف قبورهم، لكنه الموت في غزة مختلف تماما فهو ليس موت مرفه، إن المحظوظ من يجد كفنا أبيضا ويجد من يحمله ويجد من يصلي عليه، ويجد في يوم ما من يعرف مكان قبره..!! ثلاثة شهداء تضمهم دموع الشباب الراكضين ولسان حالهم.. لقد كانوا بجوارنا على قيد الحياة قبل قليل.!!

مشهد رابع: كفن أزرق.!

يسحق بياض الكفن عظام الأطفال الصغار، الأكفان البيضاء متراصة بجوار بعضها البعض، تكاد المقل تفزع من شدة البياض، غير أن هنالك كفن أزرق وحيد صغير بحجم كف بجوار الكف الآخر، بالكاد تتضح ملامح وجهه الصغير، عيناه أنفه الدقيق فمه الصغير خدوده كدمية تراها على رف أحد المحلات الكبيرة، عليك أن تتناوله بيديك كي تراه، يبدو كأنه نائم، لكنه شهيد صغير لم يتجاوز عمره الأسبوع الواحد خرج من رحم أمه ليته بقى هناك، فقد خرج والحرب مشتعلة واستشهد في حضن أمه والحرب لازالت مشتعلة، الكفن الأزرق ربما لا يسحق عظامه كباقي الأكفان، هو صامت والمشهد مهيب، العين تحدق في زرقة الكفن حتى ترى الكفن الأبيض أسفله قد سحق عظام الصغير بعد أن قذفت الحمم الصاروخية بجسده الصغير، بينما سقط ثدي أمه مضرجا بالدماء وصرخة ملتاعة حطمت جدران الصمت، لتسقط العائلة بأكملها تحت رماد البيت الجديد، وسرير الصغير بات كومة حطب مبللة بالدماء..!!

نقص حاد في الأكفان بقطاع غزة.. والمستشفيات تستغيث - شبكة رصد الإخبارية

مشهد خامس: مقابر جماعية

ترتص الأكفان البيضاء بجانب بعضها في حفرة ترابية طويلة تتسع لمئة جثمان لشهيد، يحمل الناجون الجثامين البيضاء الملفوفة والمربوطة في عدة أماكن وقد غدا أغلبها باللون الأحمر فدمهم لازال طازجا، لم يجد الأطباء والمسعفون مكانا في مشرحة الموتى، ولا حتى ظل مكان لأجسادهم في ثلاجات الايس كريم، ولا ثلاجات الخضار فقد باتت المشافي مقابر جماعية، نام الحمام، مات الحمام ولم يجد كفنا ولم يجد قبرا، مات الحمام حين عجز عن انقاذ الأحياء، مات الحمام حين عجز عن تكفين شهداء غزة، مات الحمام وظلت جثامين الشهداء تتساقط وتتكدس، لم يعد هنالك مكان للناجين الأحياء مصابين وكهول ونساء وأطفال، جاء الناجون وحفروا بأيديهم العارية قبورا جماعية رصوا الشهداء وهم يبكون الأحياء منهم، جاءت جرافة حديدها يأكله الصدأ تحمل الأتربة الناعمة لتغطيهم كي لا يشعرون بالبرد ليلا..!! مات الحمام بعد أن دمروا عشه، مات الحمام مقهورا رافعا جناحيه لرب السماء..!

مشهد سادس: أكياس بلاستيكية

بلا كفن، كان الرجل الأسمر يلف كوفيته على رقبته ويمضي، يحمل كيسين بلاستيكيين يبدو البلل محيطا بهما، وقف كثيرا وظل صامتا، التفت الأمة حوله..! ما به كمارد خرج من قصص الجنيات، لا يبدو أنه أبكما، لكن وقوفه كما تقف الأشجار شموخا، وقوفه كان لجلل لا يعرفه كل من حوله، العشرات أصبحوا مئات لفيف يطلب منه أن يخطب فيهم، إنهم الناجون يبحثون عن أثر حياة، عن قوة تعيد لهم شغفهم بحياة فقدوها، ركضوا كثيرا من بيت لبيت ومن مدرسة إيواء إلى أخرى، يبحثون عن الحياة، ألقوا المنشورات في كل مكان، أرهبوا المناطق كلها بأحزمة نارية حيث تضرب الطائرات الحربية الإسرائيلية المارقة الملعونة عشرات الصواريخ دفعة واحدة، ثم تواصل الضرب لدقائق تستمر لأرباع الساعة ولا تتوقف لثانية واحدة، الشاهد الحي يري كأنما زلزال صاروخي هز البيوت فتتها، دمر كل شيء البشر والحجر ماذا يمكن أن يحتمل اللحم الحي من قذائف؟!! الرجل القوي يرفع الأكياس مادا يديه، ينزف الدم من الأكياس وتتساقط كقطرات المطر الحمراء تزداد حدقات العيون للناجين، يصرخ كذئب يعوي: هؤلاء أبناء جمعت قطعهم لم أغفو، أحضرت لحمهم وبعضا منهم لأجد لهم قبرا وكفنا..!!

للناجين/الكفن هو غطاء أو ستر يستر بدن الشهيد، يدفن الشهيد بثيابه بدمه كما سقط في الدنيا لينهض مطالبا بدمه من قتلته في الآخرة..!! فهل عز الكفن عن شهدائك يا غزة ..!!

روى مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ))

قد تكون صورة ‏نص‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) إعلامية وكاتبة فلسطينية /غزة

 

 

 

هداية صالح شمعون (*)

في ذروة عجزي وقهري على القتل المتواصل من طائرات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، جاءني الفيديو الأول من صديقتي وفاء عيد التي تقطن في مخيم البريج، ثم تواصلت الفيديوهات لمنطقة البريج في حيهم لأرى مشاهد الدمار والخراب والتدمير المروع للبيوت، الحجارة والبلوكات المهشمة في كل مكان، تلتحم مع ملابس الصغار، صالون بيتها قد امتلأ بالأتربة والدخان يتصاعد من كل مكان، الستائر حملقت بعضها في السماء وبعضها احترق ووقع أرضا، صوت أنفاسها يصلني وهي تصور المنطقة المدمرة، بلهفة الملتاع سألتها هل أنتم بخير؟؟ لم يعد هنالك معالم للحياة.!! توافدت مزيدا من الفيديوهات للحي المدمر، ثم جاءت رسالة مقتضبة من بضع كلمات:

” لقد نزحنا إلى النصيرات لم يبقوا شيئا لنبقى”

حتى تلال الركام يعيدون قصفها، إنهم يحدقون من الأعالي حيثما شعروا بنفس الفلسطيني فإنهم يقذفونه بالحمم ليشعلوا الجحيم فيه، كانت ليلة دامية في كل أنحاء غزة والوسطي والجنوب القصف المسعور في كل مكان، الطائرات لا تغادر السماء، والحمم التي تنفثها هذه الطائرات الملعونة لا تنتهي..!!

إسكان غزة: نحتاج 120 ألف وحدة سكنية.. و175 مليون دولار لإعادة الإعمار –  قناة الغد

جلست أحدق في الفيديوهات عشرات المرات.. المنطقة تكاد تنطق قهرا وظلما، لكني أعدت صوابي لكي أثبت عزيمتها، وأخبرتها أن البيت بيتعمر والحي بيرجع أحلى من قبل، وجدت كلمات قد تبدو مناسبة..والله لا أعرف. غفوت وأنا جالسة لم أشعر إلا بأخبار شاردة تأتيني من هنا وهناك، هنالك عائلات تباد وتقتل في وضح النهار، لم أعرف كيف يمكنني الاطمئنان على أهلي وأحبائي وصديقاتي وأصدقائي هذا الغول يأكلنا ويمضغنا ببطء، لا يترك لنا دقيقة لنسأل أنفسنا هل هذا كابوس؟ أم حلم شديد البشاعة وسينجلي؟ عادت صديقتي وفاء إلى الواجهة وهي لم تغادرها.. هل لازلت على قيد الحياة؟ ما الذي يجري الأصوات بدأت تخفت لكن حقيقة مروعة باتت تكبر لقد قصفوا النازحين ولاحقوهم حيثما ذهبوا، وفاء نزحت إلى النصيرات وعائلتها كلها، انقسموا وتوزعوا لعدم توفر أماكن تتسع للجميع إلى عدة بيوت في النصيرات، أخيها الأكبر عصام ذهب مع عائله زوج ابنته عائلة الطويل، وكان ما كان.. فقدت وفاء أخيها الأكبر عصام عيد، وزوجته وبناته سماح وتمارا وأطفالهما وعائلاتهما 16 انسان لقد قصفوهم في لحظة واحدة وفي بيت كاد أن يكون آمنا بعد نزوحهم..!!

الناجية الوحيدة التي لم تفهم شيئا حتى الآن.. كانت فقط ابنة ابن أخيها “حلا” ذات السبع سنوات نزلت لدقائق من البيت لتشتري من البقالة بجانب البيت، دقائق سبعة جعلتها تبقى على قد الحياة بعد أن فتكت الصواريخ بعائلتها والبيت بأكمله أصبح كومة تراب ولحم بشري للأحبة والأقارب..!! “حلا سعيد الطويل” ذات السبع سنوات ظلت على قيد الحكاية بعد أن فقدت كل عائلتها أخواتها وأمها وأعمامها وعماتها وخالتها ..!! كل اخواتها استشهدن “لارا ومنة وليان” رحلت الأخوات كلهن أيضا مع عائلتها..!! ما هو الفقد؟! وسؤال يكبر لماذا ظلت “حلا” هل ستكتب الحكاية الدامية يوم ما؟؟!!

وفاء.. من تبقى من الأطفال؟ ماذا تبقى من الأطفال؟؟

حرب غزة: "أين نختبئ من الموت القادم من السماء؟" - BBC News عربي

كتبت بأحرف نازفة وأنين يصلني بلوعة الفقد والفاجعة:

“لم يتبق.. أصبحوا كومة لحم صغيرهم وكبيرهم؟!! زينة أشرف عيد وحيدة أبوها، أجتهم بعد عملية زراعة بعد 5 سنوات استشهدت مع أمها هديل وستها مرة أخوي عصام..!! وتمارا بنت أخوي عصام عايشة بالسويد ومعها الجنسية السويدية، أجت زيارة لأبوها وأمها بغزة كيف بدنا نعرف أنها آخر زيارة الها وعيلتها وعيلة أخوي؟؟ استشهدوا كلهم كلهم استشهدوا.؟!” أولادها وبناتها “فرح الخطيب عمرها 17 سنة، ومنة 15 سنة، وعصام عمره 13 سنة، ومحمد عمره 11 سنة” كلهم ذابت عظامهم ولحمهم ببعض مع جدهم أخوى اللي حضنهم كلهم ..!!

لم ينتهي اليوم الأسود الأخبار المفزعة تصلني من كل أنحاء غزة، هل من سبيل لحياة في غزة، حياة معلقة على صوت الرسائل الالكترونية والاشعارات التي لا تتوقف..! وأنا أحاول أن أجد بالحيلة طريقة أكثر إنسانية لاحتمال كل هذا الألم والفقد والوجع والارهاق الذي وصل لحد ادمان المسكنات كي أبقى يقظة لأتمكن من الاطمئنان والتواصل مع من ظل على قيد الحياة في غزة.

تمر الساعات والدقائق بطيئة كثعبان يلدغني مع عقارب الساعة، إننا نعيش على فوهة جحيم، غزة باتت جحيما مطلقا يقهر كل من يقترب منها، وكل من يعيش فيها يبقى محترقا بهول المجازر اليومية، أعيد الكرة لأتواصل مع صديقتي وفاء لكن الرسائل صامتة كأنها فارقت الحياة؟!! تمر الدقائق بطيئة قاتلة تذبحنا من الوريد للوريد، تأتيني مباغتة رسالة مقتضبة بعد يوم دموي لم تغمض فيه الأجفان:

“راحت عيلتي يا هداية؟؟!!” لم أكن أملك أي كلمات مواساة فمن سيواسي قلبي المفجوع فكل بيت هو بيتنا، كل عائلة هي عائلاتنا؟؟” الكلمات تكبر في رأسي المتفجر بالألم “راحت عيلتي، راحت عيلتي”

Jadaliyya - لماذا تختلف هذه الحرب عن حروب غزة الأخرى؟

كيف بدي أتحمل؟؟

لم تتوقف الحرب في قلب وفاء لتأتيني خناجر ملطخة بالدماء، لتقول مذبوحة:

“أختي استشهدت يا هداية؟ أختي وعيلتها استشهدوا أختي هيام قتلوها؟ بنتها عروس بيتها كله عرس بعثت جهازها قبل كم يوم على مصر كانت بدها تسافر وقامت الحرب؟ جهاز عرسها راح على مصر وهي راحت على السما؟؟!! راحت عيلتي راحت عيلي كيف بدي أظل عايشة؟”

كيف بدي اتحمل؟ مش قادرة أختي هيام وأولادها الآن قصفوهم في بيتهم؟؟في بيتهم؟؟في بيتهم؟؟ استشهدوا كلهم معقول ح أعيش بعدهم؟؟

عجزت عن قول شيء ماذا يمكن للمرء أن يقول القلق يحرق قلبي الضعيف وارتجافه جسدي لا يمكنها تخيل الجرائم التي عاشتها صديقت ي وفاء، التي لازالت على قيد الحياة حتى كتابة هذه الكلمات؟ تعيش النزوح وتعيش فاجعة فقدان العائلة؟ وفاء هي كل فتاة فلسطينية تعيش تحت قصف جائر، يدمر البيوت الآمنة وينزع الأمن والأمان من حياة العائلات الفلسطينية دون أي رادع!. من يمكنه أن يوقف حقد أسود يلاحق المدنيين ويستهدفهم في البيت والشارع والطرقات والمدارس وحتى المشافي..!!

“قلبي يحترق الآن” أكاد أشم رائحة النيران في قلب صديقتي فقلبي بات جمرة لا تهدأ

حصيلة العدوان على غزة.. عشرات الشهداء وتدمير للمنازل في 5 أيام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) إعلامية وكاتبة فلسطينية من قطاع غزة

الصور من مواقع مختلفة ومتصفح جوجل