نابلس – عاطف دغلس
في ثوانٍ قليلة تتحول زهور التوليب المنفردة، إلى حزم متراصة، تطوِّقها منتهى ياسين برباط مطاطي يوثقها جيدًا من الأسفل ليظهرها مجتمعة في مشهد جمالي يقل نظيره، يزيدها إبهارًا ترتيبها بشكل يبدو فيه التناسق والتنسيق أمرًا احترفته السيدة جيدًا.
هناك في منزلها في الحي الغربي من بلدة عصيرة شمال نابلس بالضفة الغربية، تُحوُّل منتهى (أم رامي) إحدى الغرف لتنسيق الورد بأشكال عدة لاستخدامه لاحقًا في قاعات الأفراح والمناسبات المختلفة، فهي اللاعبة الوحيدة في هذا المضمار في بلدتها وربما في عموم الضفة، فصارت تتميز بمهنة تقتصر في عمومها على الرجال فقط.
تتخذ منتهى (50 عامًا) من تنسيق الزهور “الطبيعية والصناعية” مهنة مختلفة عن غيرها من النساء، اكتسبتها من تلقاء ذاتها وطوَّرت نفسها ذاتيًا مستفيدة من موهبة تنعم بها منذ الصغر في زراعة الورود والأزهار في حديقة منزلها، قبل الزواج وبعده.
أصل الحكاية
لبداية الزواج تعود بنا منتهى لتروي قصتها مع الورد وذوقها الرفيع في التزيين. ذات مرة وهي شابة صغيرة وفي بداية حياتها الزوجية، أحضر زوجها سيارة صديقة وطلب منها تزيينها، لم تترد وفعلت ذلك بإتقان لفت أنظار الجميع، لكنها سرعان ما انشغلت بهموم الحياة الأسرية لتركن “هوايتها” جانبًا سنوات طويلة قبل أن تعود إليها من جديد.
وقبل خمس سنوات وبينما هي في سوق المدينة بنابلس، شغلتها حبًا مجموعة من الورد الصناعي لدى أحد الباعة، فابتاعتها ثم قصدت منزلها وهي تحملها بين يديها كما طفلة فرحة بهدية، ركنتها في ثنايا منزلها وراحت تصنع منها باقات صغيرة وتسقط إبداعها على مشروعها الصغير لينمو شيئًا فشيئًا.
لم تزح بطرفها وهي ترتب وردات التوليب، تظل يقظة ولا تلقي بالاً لشيء، فأي خطأ لن يتحمله أحد سواها، وكذلك التأخير عن موعد تزيين القاعة أو مركبة العرس أو تجهيز “مسكة” العروس، لذا فهي تحرص لإخراج عملها بأفضل حلله وبالتالي سرعة قبوله والإقبال عليه، فهذا يضيف دخلاً ماديًا لها ولأسرتها لا بأس به.
تجمع حزم الورد المنسق إلى جانب بعضها لتعلقها فوق قوس حديدي “أو شكل يختاره العروسان” أعد خصيصًا ليناسب مسرح العروسين (الكوشة) أو تضعها فوق أعمدة تصطف على يمين القاعة ويسارها بشكل يزيده جمالاً وجاذبية، لأجل ذلك تستكشف عبر زيارة استباقية للقاعة لمعاينة الوضع الذي هي عليه، من ديكور وفرش وغير ذلك.
لذوقها الرفيع حكاية أخرى تصنعها منتهى باختيار الأشياء وتنسيقها، فهي قبل الورد عملت في تركيب العطور ونسج الملابس من الوصف وحياكتها لأطفالها، واحترفت إعداد المشغولات الصغيرة “الكوزمتكس”، وافتتحت متجرًا لبيعها في بلدتها.
رغم ذلك تترك السيدة للأزواج مطلق الحرية في اختيار الشكل الذي يريدون، تحديدًا العروس التي تنتقي ألوانًا وفق ثوب زفافها، لكن لمساتها الأخيرة تظهر بوضوح، فتقول: “التزيين أصبح شيئًا مهمًا، وهناك فرق بين منصة صامتة وأخرى تشع بالورد أشكالاً وألوانًا”.
لهذا لا تنتقي السيدة الورد عبثًا إنما تختاره بعناية فائقة وتدفع غاليًا ثمنًا له، خاصة الطبيعي منه؛ الذي عادة ما يكون رهن رغبة الأزواج، ورغم ذلك تعد أسعارها – التي تتراوح بين 250 و800 دولار أميركي – أقل ثمنًا مقارنة بما تطلبه الشركات المتخصصة في التزيين.
تعاضد أُسري
تحوَلت إحدى غرف المنزل “لمعمل” تنهمك فيه منتهى ونجليها أحمد ورنا لإنجاز ما يطلب منهم، فتبدو العائلة منشغلة كخلية نحل في الأيام التي تسبق حفل الزفاف، وتتناثر الورود المجهزة في بقية الغرف لتركب لاحقًا.
وفي ذات المنزل الذي ازدانت زواياه وباحاته بباقاتٍ من الورد، تستقبل منتهى زبائنها للتفاهم حول إجراءات العمل. قد يطول اللقاء مع العروس لثلاث ساعات لتتمكن من اختيار أجمل الزهرات وأفضلها لونًا، “وهذا كله محل ترحيب منا لأي زبون”، تقول رنا التي عادة ما ترافق والدتها في تزيين الصالة.
وتضيف أن تجهيز الورد لحفل واحد يستغرق نحو ست ساعات من العمل المتواصل خلال إعداده وساعتين من التركيب أيضًا “وإذا كان طبيعيًا يحتاج وقتًا أكبر”.
تَعُدُّ منتهى عملها في “تنسيق الورد” أمرًا عاديًا وليس طارئًا، فتقول إنه فيما مضى كانت “الكوشة” تُجهَّزُ بالأزهار والصور وحتى المشغولات التراثية والحرفية. وترى أن عملها “حب وحياة” لها، قبل أن يكون “هواية وموهبة تفرغ عبرها طاقتها”، وهي تتحدى لأجل “حبها” الظروف المجتمعية القاهرة، وتسعى لتحقيق آمالها وتطوير عملها ليعم أكثر المناسبات الأخرى غير الأعراس.
المصدر : الترا فلسطين