متى تحولت صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، إلى ما يشبه وكالة أنباء خاصة بالفلسطينيين السوريين؟ لا تستطيع فاطمة جابر أن تحدد تمامًا، لكنها منذ الأيام الأولى لأزمة مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في جنوب دمشق، وجدت نفسها تنشر أسماء الشهداء والجرحى الذين يسقطون في أزقة المخيم. تؤكد أن تحولها لاسم بارز في أوساط الفلسطينيين السوريين من مخيم درعا إلى مخيم النيرب في حلب، لم يكن قرارًا يمكن تحديد زمنه.
تعيش جابر اليوم في فرنسا، وتتحدث لمراسل “عرب 48” بصوت المرأة الفلسطينية التي تجمع القوة مع الثقة والإصرار، بلهجة فلسطينية لم تتأثر بتلك السورية رغم سنوات قضتها في البلاد، وأخرى تنوي قضائها في بلد اللجوء الجديد، والذي وصلته حرصًا على ابنيها وليس طمعًا في أمنها الشخصي.
لكن ذهنها وعاطفتها لم يغادرا سورية بعد، فتجدها لأيام متتالية تصل الليل بالنهار كي تساعد لاجئ وجد نفسه عالقًا في أحد مطارات العالم، أو كي تجمع تبرعات لمخيم حديث الإنشاء يضم لاجئين هُجّروا من جنوب دمشق إلى ريف إدلب في شمال سورية، أو تحاول نشر أخبار القصف على حارات المخيم وإيصال صوت المدنيين فيه، خلال أيام جوعهم وخوفهم وبردهم.
تلك المسؤولية المرهقة حملتها جابر بشكل طوعي، لأنها وفق ما تقول، تحاول منذ الآن، أن تجيب على سؤال سيطرح عليها مستقبلًا “ماذا فعلت زمن الحرب؟”، سترد بالقول “لقد حاولت أن أفعل ما أستطيع كي أوصل الصوت المدني الذي لا تتحمل أي جهة على الإطلاق مسؤوليته، بل جعلوه متروكًا تمامًا في مهب صراع دموي لا ينتهي بعد”.
من القصف إلى الحصار إلى قصص اللجوء والهجرة غير الشرعية عبر البحر والبرّ من سورية وصولا إلى دول أوروبا، واكبت جابر مئات القصص التي تواصل خلالها مدنيون وجدوا أنفسهم عالقين في ظروف استثنائية بشكل مباشر مع جابر، عشرات الرسائل التي وصلت طوال سنوات إلى صفحة جابر، تناشد وتطلب المساعدة، وعبر ذات الصفحة تنشر السيدة القصة وتقوم بدور صلة الوصل بين من يستطيع ومن يحتاج.
تايلند هي الأصعب
تلك هي أكثر الأزمات صعوبة اليوم، تقول جابر؛ “قصص اللاجئين الفلسطينيين السوريين والعراقيين المغيبين في تايلند، هنا تستطيع أن ترى التَرَكَ والإهمال من كل الجهات الفلسطينية”.
كانت السلطات في بانكوك قد احتجزت قبل أشهر أكثر من 100 لاجئ فلسطيني بعد انتهاء إقاماتهم في البلاد، وحين تقطعت بهم السبل تمامًا للوصل إلى أي بلد في العالم.
تتابع جابر “هي قصة عمرها اليوم سبع سنوات، نساء وأطفال لا يزالون في سجون تايلند في ظروف سيئة على المستوى الصحي والنفسي، أحاول نشر مناشدات مستمرة للسلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس، كي يتحرك أحد من أجل المساعدة”.
مفقودون وغائبون
تذكر جابر قصة الشاب الفلسطيني السوري قصي مصلح، والذي فقد ذاكرته إثر غرق المركب الذي كان يقله في رحلة غير شرعية إلى أوروبا.
وتعود لتروي لنا قصص مئات من الشبان الذين لا يزالون في عداد المفقودين والغائبين، والذين تصل مناشدات ذويهم إلى جابر، تلك هي القصص الأكثر تأثيرًا عليها. تقول “في معظم الأحيان، لا توجد أخبار مؤكدة إن كان من نبحث عنه حيًا او ميتًا، في إحدى المرات كنت أعمل مع آخرين في البحث عن شابين سوريين فقدا في أوروبا، بدأت بنشر القصة، ولم أتوقع اتصالًا من ذويهما أُلام فيه على فتح الجرح من جديد”.
لكن جابر تذكر بواحد من أكثر الملفات خطورة برأيها، فيما يتعلق بقصص اللاجئين الذي حالوا الوصول إلى أوروبا، حيث وصل العشرات من الأطفال أحياءً إلى الشواطئ الأوربية، بعد أن قضى ذووهم غرقًا في البحر، تقول جابر” لا يمكن لك أن تعرف ماذا يحل بهؤلاء الأطفال بعد ذلك، وكيف تتصرف الحكومات الأوربية حين يتم العثور على أطفال من دون آبائهم قرب الشواطئ الإيطالية”.
كثيرًا ما تغلق جابر سماعة الهاتف بعد نقاشات طويلة مع عائلات سورية فلسطينية وسورية، لتستلم للبكاء، قبل أن تعود من جديد إلى نشاطها على قضية أخرى علها تساعد في حلها.
إلى المخيم من جديد
ستة عشر منزلًا تهاوت في مخيم اليرموك، تعود لعائلة جابر الكبيرة، هناك تركت خلفها ذكرياتها وصوروها وصور أطفالها ولحظاتهم التي جربت أن توثقه ليظل حاضرًا إلى الأبد، ولم تظن أنها ستفارقها سريعًا ومن دون أي إشارة، لكنها لا تزال وفق ما تقول تعيش صدمة اللجوء.
“هل أعود إلى المخيم؟ لا أعلم ذلك مثلي مثل آلاف الفلسطينيين السوريين هنا، لكني لا أظن أني سأعود، هنا في أوروبا نحاول أن نبني ذكريات جديدة، وأن تبني ذلك التوازن بيننا وبين الثقافة الجديدة التي دخلنا إليها”، تقول جابر.
لكن جابر لا تغلق باب العودة إلى سورية، وإلى مخيم اليرموك في يوم ما، رغم أنها تربط ذلك باستقرار الوضع في البلاد وفي المخيم تحديدًا، تخبرنا أنها وطوال ثمان سنوات من اللجوء الجديد لم تشاهد ولو حلمًا واحدًا عن الأماكن الجديدة التي قضتها خارج المخيم: “كل الأحلام عن هناك ومن هناك”.
وهنا أقرب لفلسطين
رغم كل المصاعب التي يعاني منها الفلسطينيون السوريون الذين باتوا لاجئين في دول الاتحاد الأوربي، إلا أن جابر ترى في الواقع الجديد بعض الإيجابيات، فصحيح أن اللغة والعمل يشكلان بالإضافة إلى الاختلافات الثقافية والاجتماعية عاملًا مقلقًا للبعض، لكنها ترى أن بإمكان الفلسطينيين المقيمين في البلاد التي تعامل أفضل من أي بلد عربي، أن يثبتوا أنفسهم اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، تذكر لنا أسماء فنانين وأطباء ومثقفين نجحوا في الحصول على فرص وإقامة نشاطات مختلفة خلال السنوات الماضية.
وهنا، تقول جابر، وبعد سنوات قليلة من الآن، سيكون بإمكان الفلسطيني السوري، أن يتوجه بجواز سفره الأوربي، لزيارة أراضي البلاد جميعها “إننا أقرب اليوم إلى فلسطين من أي وقت مضى” تقول جابر التي لا تخفي تفاؤلها بذلك.
القصة الأخيرة
آخر ما يمكن أن تقرأه اليوم على صفحة جابر، هي قصة فلسطيني سوري يقيم في لبنان، داهمه مرض السرطان، ولا يجد طريقة لتلقي العلاج، وتمكنت جابر مع ناشطين أخرين من جمع مبالغ مالية لصالحه ليبدأ بتلقي العلاج، لكنه لا يزال بحاجة إلى 2000 دولار كي يكمل علاجه ويعيش حياة كريمة؛ هذا ما أكدته جابر في منشور جديد وقصة جديدة نشرتها يوم الثالث من آذار/ مارس الجاري