تقرير: رهف خليل
امرأةٌ صُنِعَت في كتابِ التاريخِ ورقةً لتسطِّرَ فيها تضحياتها المتتالية ضد عدو سلبَ أرضَها وليطول في سرقته خطيبها وأخيها، أمٌ لِطفلَيْن و أسيرةٌ محررةٌ بعد اعتقاليْن متتاليْن لم يَكُنْ الفاصلُ بينهما طويلاً، وفتاةٌ حرمها الإحتلالُ فرحتَها بإرتداءِ ثوبِ زفافِها الأبيضِ بأن سلبَ لها خطيبَها ليرتقيَ شهيداً.
عبيدة أبو عيشة صاحبةُ الثلاثِ وأربعون عاماً من قريةِ بيت وزن غرب مدينةِ نابلس تروي لنا ذكريات عشرون عاما من عمرِها قضتها تحاربُ سرقةَ الإحتلالِ لكلِ شيء ثمين تملكه ولتبعياتِ هذه السرقات المتتالية، “أم صفوت” لم تكنْ أسيرةَ الإحتلالِ فقط بل أسيرةِ الذكريات والالام والمعاناة والاتهامات المتتالية من ابناءِ شعبها وأسيرة في حبِ وطنها وفي كنفِ أحلامها التي باتت سراباً بعد كل ما تلقته من صفعاتٍ متتاليةٍ وأسيرة لشعورِ الأمومةِ الذي ساعدها لتقفَ على قدميها ولتبنيَ لأبنائها حلماً جميلاً بغدٍ أفضل.
بدايةُ الحكايةِ:
تروي عبيدةُ أبو عيشة:” كان عمري 23عاما عندما تم اعتقالي للمرةِ الأولى، كنت أعمل حينها ممرضة منزليةٍ وتعيشُ مريضتي في بلدةِ شعفاط، حيث أدخلُ إلى هناك تهريب وتم إيقافي عدة مرات، كنت أستعدُ كأيِّ فتاة لحفلِ زفافي على خطيبي علي ياسين الذي كان من المفترض إقامته في شهر 7 من عام 1999، والتجهيزات على أتمها لإستقبالِ هذا اليوم المميز ولكن شاءت الأقدارُ أن يحدثَ ما لم يكنْ متوقعٌ حيث تم اعتقالي حينها”.
اعتادت عبيدة أن يتم إيقافها من قبل جنودِ الإحتلالِ حتى صارَ أمراً روتينيّاً بالنسبةِ لها يتم إيقافها لعدةِ ساعاتٍ ثم تعودُ لبيتِها، وفي مرةٍ من مراتِ إيقافها كان الأمرُ مختلفاً:” في ذلك اليوم تطاولَ عليّ الجنديُّ الإسرائيليّ والمجندةُ أرادت تفتيشي تفتيش عاري إجباري و رفضتُ ذلك، ولأنني ممرضة كنتُ أحملُ في حقيبتي عدة التمريضِ ومن بينها شفرةٍ نستخدمُها عادةً أثناء العملِ إن لزم الأمرُ وكان واضحٌ أنها أداةٌ تُستَخدَم في المستشفياتِ وتم اعتقالي على أثرِها”.
حُكِمَ على عبيدةٍ في اعتقالِها الأول عاميْن و5 أعوام إقامة جبرية في مناطقِ السُّلطةِ بعد الخروجِ من الأسرِ، وتستكملُ أبوعيشة روايتَها عن آسرِها الأول:” قضيتُ ثُلثَيْن المدة و ذهبتُ للمسكوبيَّةِ ومضى 4 أيام دون التحقيقِ معي، وبسبب سوء الغذاء الذي كان يُقَدَمُ لنا قررتُ الإضرابَ عن الطَّعامِ فما كان يُقدَمُ لنا لم تستطعْ نفسي تحمله ففي المرةِ الأولى أحضروا لنا الدجاج دون تنظيفه من ريشِه جيِّداً، يُدخلون لنا الطَّعامَ من أسفلِ البابِ عن طريقِ طاقةٍ صغيرةٍ موجودة أسفل بوابة الغرفة ويتم تمرير الطَّعام من خلالِها، أمَّا عن التعذيبِ فكانوا يَتَفننون بتعذيبِنا”.
خرجَتْ من السِّجنِ لتستقبلَها عائلتُها وخطيبُها وتبدأُ التجهيزاتُ لإكمالِ ما كان ناقصاً ولتزفَ عروساً بثوبٍ أبيضٍ ولم يعلمْ أيَّ منهم أنَّ مَن سيزف هو خطيبُها علي ياسين شهيداً لجناتِ العُلا:” خرجتُ من السّجنِ وقمنا بالبحثِ عن بيتٍ جديدٍ في رام الله وأكملنا تحضيراتِ حفلِ الزفافِ الذي انتظرناه عامَيْن وقبل الزفافِ بأربعةِ أيامٍ استُشهِدَ عليٌّ”.
وتُضيفُ أبو عيشة:” في يومِ استشهادِ عليّ كان من المفترضِ أن نذهبَ لننهيَ آخرَ تجيهزاتِ العرسِ و عليّ انشغلَ في ذلكَ اليومِ فتمَ تأجيل التحضيرات لليوم التالي، كُنتُ قلقةً جِداً في تلكَ الليلةِ وأشعرُ أن هناكَ شيء سيحدث حتماً، أيقظتني أختي لصلاةِ الفجرِ، عندما بَدأتُ الصلاةَ بدأتُ تلقائياً بترديد” اللهم لا اسألك ردُ القضاءِ ولكنّي أسألك اللطف فيه” كنت أريدُ التحدث مع عليّ إلا أنهم لم يسمحوا لي فزادَ قلقي حينها وقُمتُ بتشغيلِ التّلفازِ لأشاهدَ الأخبارَ فسمعتُ خبرَ استشهاده”
جَلستْ عبيدة حينها ما بين التَصديقِ والتَّكذيبِ والصَّدمةِ بعد أن كانت تنتظر حفلَ زفافِها لتصبحَ عروساً لشهيدٍ زُف لمن خلقه، فتضع يدَها على دمِهِ وتُيْقِن أنَّ هذا الدم حِنا العروس، علي ياسين رصاصةٌ من رصاصاتِ جنديّ غادرَ َسلبت روحَه ليضافَ إلى قائمةِ شهداءِ إنتفاضةِ الأقصى عام 2000م.
العودةُ إلى نابلسٍ .. الإعتقالُ الثاني:
وتُتابع عبيدة حكايتها:” بعد استشهاد علي غادرتُ رام الله لأعودَ إلى قريتي بيت وزن غرب نابلس، عُدتُ لأبدأَ حياتي من جديدٍ كان أخي صفوت في آخرِ مراحلهِ الدراسيَّةِ فَقررتُ أن أكرسَ حياتي لتدريسِ أخي والإعتناءِ به، لم يكنْ سهلاً أن أبدأَ مرة أخرى، فصفعةِ صفوت كانت قريبة وسريعة”
في اليومِ الأخيرِ لعطلتِه المدرسيّةِ أيّ بتاريخ 25/1/2001 خرجَ صفوتُ من البيتِ ولكنّه لم يعدٔ لتتلقى عبيدة صفعتَها الثانيّة بإستشهادِ أخيها صفوت لتزفَه هو الآخر إلى مَن خلقه:”وبعد إستشهادِه تَلَتهُ إبنة عمتي دارين لتستشهدَ هيَ الأخرى وبقيتُ بعد إستشهادهما مطاردة لأربعةِ شهورٍ وتم إعتقالي بتهمةِ التخطيط لتنفيذِ عمليةٍ إستشهاديةٍ والإنتماءِ للجناحِ العسكريّ للجهادِ الإسلاميّ بتاريخ 2/6/2002″.
أُعتِقلت عبيدة للمرةِ الثانيَّةِ ، وحُكِمَ عليها بالسِّجنِ خمسَ سنواتٍ، مُنِعَت مِن زيارةِ عائلتها لها ولم تعرفْ أخبارَهم أو تستلمُ الكثيرَ من الرسائلِ منهم وما كان يَصِلُها هو مجرد رسائلَ قديمة مرَّ على إرسالِها عدةِ شهور، إلا أنْ تمَ الإفراج عنها.
لم تعلمْ عبيدة من أين ستبدأ هذه المرة أو ماذا ستفعل وهل ستسطيع تجاوز ما هو قادم، كانت كمن يخرجُ من ظلامٍ لعالمٍ مجهولٍ فلم تعلمْ ما قد يواجها من مجتمعٍ شرقيّ يظنُ أن الأنثى إن سُجنَت فقد خَسِرَت عُذريّتها وجَسَدِها ونَفسِها وكَرامَتِها.
استقبلَ عبيدة جموعاً غفيرةً من سكانِ قريتها وغابت عن مُخيلتِها أسماء معظمهم ورأت في القريبِ منهم لها غريباً عنها، أطفالٌ صغارٌ لم تعرفْهم وأشخاص قد كبروا فلم تميزْ ملامحهم وبعد عدة ساعات واجهت أول صفعة بعد حُريتها فتلقت السؤالَ الذي لم تظنْ أنه سَيُوجَه لها من اليومِ الأول” صحيح همي بغتصبو البنات؟” هنا كانت صاعقةُ عبيدة وهناك أيقنت أنها أمام حربٍ قاسيّةٍ لربما تكون أقسى من جدرانِ السّجنِ وأقسى من محتلٍ سرق منها أغلى أملاكها.
تكرر السؤالُ على مسامعِ عبيدة كما تكررَ على مسامعِ كل الأسيراتِ المحرراتِ لتتوافقَ الإجاباتُ بينهن:” ربما نحن بين يديّ إحتلال ولكن كل جندي حققَ معنا لم يجرؤ للحظه بأن يلمسَ أيّ منا وكانت تتواجدُ جنديّةُ تُشرفُ على تفتيشنا”.
ولم يكفي ذلك فبعد تحررها من تهمتِها لاقاها من حولها بتهمةٍ أخرى لعلها أقسى من سابقتِها:” لم يكفُوا عني فزادوا عيارَ طلقاتهم واتهموني بأنني مَن أرسلت صفوت ودارين للقيامِ بالعملياتِ الإستشهاديَّةِ، أنا لا أستطيع فعل ذلك لست بتلكَ القوةِ والجبروتِ لأرسلَ أي منهم لمكانٍ لا عودة منه، ولو كنت أعلم لحاولت بكل جهدي منعهم وإن لم أستطعْ لكنت ذهبت معهم إلى حيث هم ذاهبون”.
وماذا بعد الأسريْن؟
تقولُ عبيدة:” قررت أن أقفَ مرةً أُخرى على قدميِّ فذهبت لِلعملِ في رام الله في حضانةٍ وكنت أريدُ إكمالَ دراستي ثم تزوجت في الخليل وعملت في مستشفى الأهليّ مساعدة ممرضة، وأخذتُ دورةَ صحافةِ لسنة كاملة وأردت إكمال دراستي في بيرزيت إلا أن زوجي عارض ذلك بشدة فلم أُكملْ ما بدأت، لم يرزقني الله أطفال في أول أربع سنوات وكثرت إتهامات والدة زوجي لي فهي كانت رافضة لزواجه بحجةِ أنني كبيرة بالعمرِ وأنهم على حسبِ ما تقول”خربوها بالسجنِ” ثم شاء الله وأنجبت بنتاً وولداً ولكن زواجي كان فاشلاً فزوجي لم يتقبلْ فكرةَ أنني أسيرةٌ محررةٌ”.
وتضيفُ:” في تلكَ الفترة كنت أخضعُ للعلاجِ النفسيّ كأيّ أسيرة تخرجُ من السّجنِ بدافعِ التفريغ عمّا مرَرَتْ بهِ فقامَ مركزٌ تام بتوفيرِ أخصائيَّة نفسيَّة لي، وزوجي عند أصغر خلاف لا يبرح بأن يتهمني بالمريضة النفسيَّة وأيضاً أرادَ مني أن أبتعدَ عن كل ما يتعلقُ بالسِّياسةِ ولكن كان الأمرُ صعباً بالنسبةِ لي ولم أنجحْ بالتأقلمِ ولم يستطعْ هو ولا المجتمع أن يراعوا الظروفَ التي مرَرَتُ بها”.
انفصلت عبيدة عن زوجِها لتعودَ هيَ وولديْها إلى نابلسٍ لتبدأَ بدايةً أُخرى من ضمنِ بداياتها الكثيرة لعلها تنجح هذه المرة:” عدتُ إلى نابلسٍ وقررتُ أن انطلقَ مرة أخرى فدرستُ العلاجَ البديلَ بالعلاجِ بالريفلكسولوجي(العلاج بالنقاط الانعكاسية) سيتشو( طريقة علاج يابانية العلاج على مسارات الطاقة وتنشيطها على نقاط معينة وبطريقة معينة بالضغط بالابهام والكف) والتجميل بتقديرٍ ممتاز والاستشفاء الذاتي(طرق علمية لكيفية التخلص من الطاقة السلبية واستبدالها لطاقة إيجابية) الحجامة وعلاج البشرة”.
استطاعت عبيدة أن تبدأَ مرةً أُخرى وأن تشِقَ طريقَها لتربيةِ وَلديْها بنفسِها اللذان حرمهما والدهما من أبسطِ حقوقهما وهيَ النفقة، كان لابد لعبيدة أن ترسي سفينتها في برِ الأمان لتعيلَ أطفالَها، تعملُ الآن عبيدة في العلاجِ الطبيعيّ واستطاعت أن تفتحَ مركزَها البسيط والخاص بها للعلاج بالحجامة لعلها تبني مع أولادها عشاً آمناً على الرَّغمِ من أن مجتمعنا ما زال يرمي بجمراتِه الحارقةِ عليها.
عبيدة أبو عيشة واحدة من مئاتِ الأسيراتِ المحرراتِ اللواتي يعانون من اتهامات المحتمع و تشيرُ هيئةُ شؤون الأسرى والمحررين التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في آخر إحصائية لها أن هناك 36 أسيرة في سجون الإحتلال و28 منهن صدرت بحقهن أحكام تفاوتيه أعلاها 16 عاما.
وتتعرضُ الأسيراتُ الفلسطينياتِ، منذ لحظة اعتقالهن على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي للضربِ والإهانةِ والسّبِ والشَّتمِ؛ وتتصاعدُ عملياتُ التضييق عليهن حال وصولهن مراكز التحقيق؛ حيث تمارسُ بحقهن كافة أساليب التحقيق، سواء النفسية منها أو الجسدية، كالضربِ والحرمانِ من النومِ والشبْحِ لساعاتٍ طويلةٍ، والترهيبِ والترويعِ، دون مراعاة لأنوثتهن واحتياجاتهن الخاصة.