“شروشي لبنانية وأغصاني مقدسية، كنت متحمسة للعيش في القدس التي حدثني عنها أبي كثيرا”…هكذا عبّرت السيدة بيتي داغر مجج “أم صالح” (94عاما) عن حبها للمدينة التي تسكنها منذ أكثر من 70 عاما حفلت بالعمل التطوعي الإنساني، حتى نالت لقب المرأة المقدسية المتميزة.
لا تحب مجج أضواء الشهرة أو الإعلام، لكنها خصّت الجزيرة نت بلقاء دافئ في بيتها بشارع المسعودي بالقدس المحتلة. كان بيتا قديما مُتقنا، مزيّنا بالصور والتحف التذكارية، تفوح منه رائحة الكعك بالفواكه المجففة، الذي أعدّته خصيصا في عيد الميلاد وأصرّت أن تكرمنا منه.
تهيّأت مجج بمعطف موشّح بالتطريز الفلسطيني، وتركت عصاها جانبا لتحدثنا عن ذكريات قالت إن كتبا كثيرة لا تكفي لتوثيقها، لكنها وثقتها في كتابها “الحرب من دون الشوكولاتة” الذي كتبته في عامها الـ88. ورغم تقدم سنها، فإن ذاكرتها وحواسّها -باستثناء بصرها- لم يؤثر فيها الزمن.
ولدت بيتي عام 1927 في مدينة صيدا بلبنان لوالدتها أنجيل نحاس ووالدها يوسف داغر، ودرست مهنة التمريض التي حلمت بها في الجامعة الأميركية ببيروت، وهناك التقت بالمقدسيّ أمين مجج الذي كان يدرس طب الأطفال، وأصبح لاحقا أبرز أطباء القدس وسياسييها.
من بيروت إلى القدس
لم توافق عائلة بيتي في البداية على ارتباط الشابين الطالبين؛ فاحتجزتها في البيت 4 أيام ومنعتها من الذهاب إلى الجامعة، لكنها تمكنت من إيصال رسالة إلى أمين الذي سارع إلى خطبتها. ووافقت العائلة أخيرا على ارتباطهما بعد إصرارهما الشديد، وأقاما حفلتي الخطوبة والزواج في بيروت، ثم انتقلا إلى القدس عبر شاطئ حيفا عام 1947.
لم تبتعد بيتي عن عائلتها التي خشيت ذلك، فكانت تسافر باستمرار إلى بيروت قبل احتلال القدس عن طريق مطار قلنديا في رحلة تستغرق ساعة فقط، وأنجبت أبناءها الأربعة في بيروت، الذين تأخر إنجابهم 10 سنوات تخللتها زيارات إلى الأطباء في بيروت ولندن، ووفاة مولودتها الأولى.
بداية العمل الإنساني
افتتح زوجها أمين مجج عيادة للأطفال في “مأمن الله” غربي القدس، لكن حرب النكبة اندلعت سريعا عام 1948، فتفرغ لمعالجة الجرحى شرقي القدس، بعد فصل جزئي المدينة عن بعضهما بعضا، وشحّ الطواقم والتجهيزات الطبية. وعندئذ بدأت رحلة بيتي في العمل الإنساني، فافتتحت وزوجها مشفى في بلدة العيزرية شرقي القدس؛ لعلاج الجرحى ونقلهم بسيارة زوجها الشخصية إلى مشفى الهوسبيس في البلدة القديمة، الوحيد الفاعل آنذاك.
وبعد 9 أشهر انتقل الزوجان إلى العمل في مشفى المطلع (أوغستا فيكتوريا) في جبل الزيتون، الذي كان يستقبل اللاجئين الفلسطينيين عام 1949، فعملت بيتي فيه ممرضة ثم مساعدة لمديرته ثم مديرة له مدة 5 سنوات، وفي الوقت ذاته كانت نائبة للسيدة زليخة الشهابي في مؤسسة الاتحاد النسائي العربي بالقدس.
عاشوا على الشوكولاتة
وبعد إنجابها تفرغت الممرضة الشابة لأبنائها، وتروي للجزيرة نت ذكريات احتلال شرقي القدس عام 1967، عندما أصرّ زوجها على مواصلة عمله في المشفى، في حين حوصرت هي وأطفالها طوال 6 أيام في بيتهم تحت أصوات القنابل والرصاص الذي كسر النوافذ والشرفات، وفجّر أنابيب الماء وقطع خطوط الكهرباء.
وتضيف “لم نستطع الخروج من البيت أبدا، عشنا على الماء وبعض الشوكولاتة والفواكه التي احتفظنا بها في غرفة المؤن”.
30 عاما في مؤسسة الأميرة بسمة
وبعد ما كبر أبناؤها وسافروا للدراسة، ترأست بيتي مؤسسة الأميرة بسمة لذوي الاحتياجات الخاصة في القدس مدة 30 عاما، فبدأت من الصفر وأسست عددا من الأقسام، ودمجت الأطفال فيها بالمدارس العادية، ووفرت لهم منحا دراسية وفرصا للعمل في المؤسسة.
وتقول إن المؤسسة كانت خيرية غير ربحية اعتمدت على المساعدات السخية من المتبرعين من خارج فلسطين، الذين وثقوا بأمانتها وعاينوا نتائج تبرعاتهم الجليّة.
كما أسست في ستينيات القرن الماضي جمعية للدفاع عن حقوق الممرضين والممرضات في القدس، واستمرت في العمل الإنساني بالهمة ذاتها، حتى تقاعدت على مشارف الـ90 من عمرها.
تناغم فريد
وتتحدث أم صالح -كما تحب أن تُنادى- بلهجة مقدسية ليّنة لا تخلو من كلمات لبنانية، وتتقن إلى جانبها اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وتحتفظ بصورها وزوجها أثناء أسفارهم إلى مصر والشام (سوريا) ومدن أوروبا، لكنها تقول إنها تفضل القدس دائما، فقد حلمت بزيارتها منذ طفولتها، بعد أن عاش وعمل فيها والدها 10 سنوات بمنصب خوريّ في كنيسة سانت آن بالمدرسة الصلاحية بالقدس.
وتكمل حديثها الممتع فتقول “أنحدر وزوجي من عائلات مسيحية، وكنا نحتفظ بعلاقات وديّة مع جيراننا المسلمين في القدس من عائلات النشاشيبي والعلمي والحسيني، فقد كانوا يدعوننا إلى تناول الإفطار في ليالي القدر بشهر رمضان، وكنت أحرص على الصيام في يوم الدعوة”.
وقبل جائحة كورونا كانت بيتي تسافر إلى بيروت سنويا لزيارة عائلتها هناك، واليوم تداوم على الصلاة كل أحد في كنيسة سانت جورج القريبة من بيتها.
وهي تودّعنا، أرتنا الممرضة المخضرمة نسخة من القرآن الكريم ممهورة بماء الذهب أُهديت إلى زوجها الطبيب الراحل، وتقول “أقرأ منها أحيانا، كما أرتاح للاستماع إلى تلاوة القارئ عبد الباسط عبد الصمد عبر الراديو”.
المصدر: الجزيرة