هداية صالح شمعون (*)
في ذروة عجزي وقهري على القتل المتواصل من طائرات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، جاءني الفيديو الأول من صديقتي وفاء عيد التي تقطن في مخيم البريج، ثم تواصلت الفيديوهات لمنطقة البريج في حيهم لأرى مشاهد الدمار والخراب والتدمير المروع للبيوت، الحجارة والبلوكات المهشمة في كل مكان، تلتحم مع ملابس الصغار، صالون بيتها قد امتلأ بالأتربة والدخان يتصاعد من كل مكان، الستائر حملقت بعضها في السماء وبعضها احترق ووقع أرضا، صوت أنفاسها يصلني وهي تصور المنطقة المدمرة، بلهفة الملتاع سألتها هل أنتم بخير؟؟ لم يعد هنالك معالم للحياة.!! توافدت مزيدا من الفيديوهات للحي المدمر، ثم جاءت رسالة مقتضبة من بضع كلمات:
” لقد نزحنا إلى النصيرات لم يبقوا شيئا لنبقى”
حتى تلال الركام يعيدون قصفها، إنهم يحدقون من الأعالي حيثما شعروا بنفس الفلسطيني فإنهم يقذفونه بالحمم ليشعلوا الجحيم فيه، كانت ليلة دامية في كل أنحاء غزة والوسطي والجنوب القصف المسعور في كل مكان، الطائرات لا تغادر السماء، والحمم التي تنفثها هذه الطائرات الملعونة لا تنتهي..!!
جلست أحدق في الفيديوهات عشرات المرات.. المنطقة تكاد تنطق قهرا وظلما، لكني أعدت صوابي لكي أثبت عزيمتها، وأخبرتها أن البيت بيتعمر والحي بيرجع أحلى من قبل، وجدت كلمات قد تبدو مناسبة..والله لا أعرف. غفوت وأنا جالسة لم أشعر إلا بأخبار شاردة تأتيني من هنا وهناك، هنالك عائلات تباد وتقتل في وضح النهار، لم أعرف كيف يمكنني الاطمئنان على أهلي وأحبائي وصديقاتي وأصدقائي هذا الغول يأكلنا ويمضغنا ببطء، لا يترك لنا دقيقة لنسأل أنفسنا هل هذا كابوس؟ أم حلم شديد البشاعة وسينجلي؟ عادت صديقتي وفاء إلى الواجهة وهي لم تغادرها.. هل لازلت على قيد الحياة؟ ما الذي يجري الأصوات بدأت تخفت لكن حقيقة مروعة باتت تكبر لقد قصفوا النازحين ولاحقوهم حيثما ذهبوا، وفاء نزحت إلى النصيرات وعائلتها كلها، انقسموا وتوزعوا لعدم توفر أماكن تتسع للجميع إلى عدة بيوت في النصيرات، أخيها الأكبر عصام ذهب مع عائله زوج ابنته عائلة الطويل، وكان ما كان.. فقدت وفاء أخيها الأكبر عصام عيد، وزوجته وبناته سماح وتمارا وأطفالهما وعائلاتهما 16 انسان لقد قصفوهم في لحظة واحدة وفي بيت كاد أن يكون آمنا بعد نزوحهم..!!
الناجية الوحيدة التي لم تفهم شيئا حتى الآن.. كانت فقط ابنة ابن أخيها “حلا” ذات السبع سنوات نزلت لدقائق من البيت لتشتري من البقالة بجانب البيت، دقائق سبعة جعلتها تبقى على قد الحياة بعد أن فتكت الصواريخ بعائلتها والبيت بأكمله أصبح كومة تراب ولحم بشري للأحبة والأقارب..!! “حلا سعيد الطويل” ذات السبع سنوات ظلت على قيد الحكاية بعد أن فقدت كل عائلتها أخواتها وأمها وأعمامها وعماتها وخالتها ..!! كل اخواتها استشهدن “لارا ومنة وليان” رحلت الأخوات كلهن أيضا مع عائلتها..!! ما هو الفقد؟! وسؤال يكبر لماذا ظلت “حلا” هل ستكتب الحكاية الدامية يوم ما؟؟!!
وفاء.. من تبقى من الأطفال؟ ماذا تبقى من الأطفال؟؟
كتبت بأحرف نازفة وأنين يصلني بلوعة الفقد والفاجعة:
“لم يتبق.. أصبحوا كومة لحم صغيرهم وكبيرهم؟!! زينة أشرف عيد وحيدة أبوها، أجتهم بعد عملية زراعة بعد 5 سنوات استشهدت مع أمها هديل وستها مرة أخوي عصام..!! وتمارا بنت أخوي عصام عايشة بالسويد ومعها الجنسية السويدية، أجت زيارة لأبوها وأمها بغزة كيف بدنا نعرف أنها آخر زيارة الها وعيلتها وعيلة أخوي؟؟ استشهدوا كلهم كلهم استشهدوا.؟!” أولادها وبناتها “فرح الخطيب عمرها 17 سنة، ومنة 15 سنة، وعصام عمره 13 سنة، ومحمد عمره 11 سنة” كلهم ذابت عظامهم ولحمهم ببعض مع جدهم أخوى اللي حضنهم كلهم ..!!
لم ينتهي اليوم الأسود الأخبار المفزعة تصلني من كل أنحاء غزة، هل من سبيل لحياة في غزة، حياة معلقة على صوت الرسائل الالكترونية والاشعارات التي لا تتوقف..! وأنا أحاول أن أجد بالحيلة طريقة أكثر إنسانية لاحتمال كل هذا الألم والفقد والوجع والارهاق الذي وصل لحد ادمان المسكنات كي أبقى يقظة لأتمكن من الاطمئنان والتواصل مع من ظل على قيد الحياة في غزة.
تمر الساعات والدقائق بطيئة كثعبان يلدغني مع عقارب الساعة، إننا نعيش على فوهة جحيم، غزة باتت جحيما مطلقا يقهر كل من يقترب منها، وكل من يعيش فيها يبقى محترقا بهول المجازر اليومية، أعيد الكرة لأتواصل مع صديقتي وفاء لكن الرسائل صامتة كأنها فارقت الحياة؟!! تمر الدقائق بطيئة قاتلة تذبحنا من الوريد للوريد، تأتيني مباغتة رسالة مقتضبة بعد يوم دموي لم تغمض فيه الأجفان:
“راحت عيلتي يا هداية؟؟!!” لم أكن أملك أي كلمات مواساة فمن سيواسي قلبي المفجوع فكل بيت هو بيتنا، كل عائلة هي عائلاتنا؟؟” الكلمات تكبر في رأسي المتفجر بالألم “راحت عيلتي، راحت عيلتي”
كيف بدي أتحمل؟؟
لم تتوقف الحرب في قلب وفاء لتأتيني خناجر ملطخة بالدماء، لتقول مذبوحة:
“أختي استشهدت يا هداية؟ أختي وعيلتها استشهدوا أختي هيام قتلوها؟ بنتها عروس بيتها كله عرس بعثت جهازها قبل كم يوم على مصر كانت بدها تسافر وقامت الحرب؟ جهاز عرسها راح على مصر وهي راحت على السما؟؟!! راحت عيلتي راحت عيلي كيف بدي أظل عايشة؟”
كيف بدي اتحمل؟ مش قادرة أختي هيام وأولادها الآن قصفوهم في بيتهم؟؟في بيتهم؟؟في بيتهم؟؟ استشهدوا كلهم معقول ح أعيش بعدهم؟؟
عجزت عن قول شيء ماذا يمكن للمرء أن يقول القلق يحرق قلبي الضعيف وارتجافه جسدي لا يمكنها تخيل الجرائم التي عاشتها صديقت ي وفاء، التي لازالت على قيد الحياة حتى كتابة هذه الكلمات؟ تعيش النزوح وتعيش فاجعة فقدان العائلة؟ وفاء هي كل فتاة فلسطينية تعيش تحت قصف جائر، يدمر البيوت الآمنة وينزع الأمن والأمان من حياة العائلات الفلسطينية دون أي رادع!. من يمكنه أن يوقف حقد أسود يلاحق المدنيين ويستهدفهم في البيت والشارع والطرقات والمدارس وحتى المشافي..!!
“قلبي يحترق الآن” أكاد أشم رائحة النيران في قلب صديقتي فقلبي بات جمرة لا تهدأ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) إعلامية وكاتبة فلسطينية من قطاع غزة
الصور من مواقع مختلفة ومتصفح جوجل