هداية صالح شمعون (*)
غزة لا تريد كسرة الخبز ولا تريد شربة الماء، نعم إنه اليوم السابع عشر من الحرب الإسرائيلية المجرمة على قطاع غزة، غزة تريد أكفانا لشهدائها، هذا ما تريده غزة كفنا للشهيد والآخر لصمت العالم المخزي الذي تآمر على الإنسانية، أغمض عينيه فحفروا له قبرا في غزة..!!
مشهد أول: عائلة في كفن واحد.!
كفن أبيض يتكور على ذاته، كبير وقد لفه الناجون بشكل كروي يختلف عن كافة الأكفان الأخرى من حوله، تقترب أكثر منه بينما رائحة الموت تنتشر في المكان، كتب عليه أسماء عائلة بأكملها، إنهم يلتصقون ببعضهم البعض فحين قذفت الحمم الصاروخية بيتهم انصهروا وباتوا أكوام لحم، لم يتمكن المنقذون من فصلهم بفعل الاحتراق عن بعضهم البعض، إنهم ستة أفراد باتوا معا كما كانوا معا وهم أحياء!! لقد التصقت أكتافهم بصدورهم بحضن الأم ويدي الأب الحانية، لقد كفنوا في كفن واحد، عائلة بأكملها في كفن واحد خشية أن تلاحقهم صواريخ القهر والإرهاب الإسرائيلي فتماسكوا وانهالت الأتربة عليهم في قبر واحد.!.
مشهد ثان: الحضن الأخير..!
تضم إلي حضنها كفن أبيض، كومة بيضاء طويلة تضم ابنا أو بنتا..!! إنها أم ملتاعة ترتدي الجلباب الطويل تبدو كقطة سرقت لحما لأطفالها حتى تطعمهم، لكنها أم سرقت كفن ابنها لتضمه إلى صدرها بقوة، انهارت فزعا وفقدا وجلست القرفصاء تتشبت أيديها وكل ذرة في كيانها بالجثمان، تشمه وتبكي، إنه كعويل الفقد الذي لا يشبه عويل، كذئب جريح مسه السهم المدبب كخنجر يذبح القلب، كانت الأم بعينين منهارتين قد سكتت عن الكلام وعن العويل وأغمضت عينيها وهي تحتضن الجثمان لكبدها وتبتعد عن هذياني وكل العيون الفضولية من حولها في المشفى..!!
مشهد ثالث: جنازة مترفهة
ثلاثة شبان يحمل كل منهم كفنا أبيض كتب على كل منها اسم ثلاثي باللون الأسود، عقدت كلا طرفيه مربوطا خشية أن يركض الشهيد في لحظة ما، يمشي خلفهم عشرات الشبان بينما خلفهم أكوام البيوت المنكوبة المدمرة، الشوارع كأنما بقرت بطونها، تشقق الأسفلت، تصدعت الأرض من حولهم، كانوا يمشون كأنهما هنالك من نبت لهم أجنحة فأصبحت الجنازة تسير بسرعة كبيرة ناحية المقبرة التي لم يعد فيها متسع لمزيد من الشهداء، بحثوا عن أي شواهد حتى لو ظل أحد الناجين وجاء يوما يعرف قبورهم، لكنه الموت في غزة مختلف تماما فهو ليس موت مرفه، إن المحظوظ من يجد كفنا أبيضا ويجد من يحمله ويجد من يصلي عليه، ويجد في يوم ما من يعرف مكان قبره..!! ثلاثة شهداء تضمهم دموع الشباب الراكضين ولسان حالهم.. لقد كانوا بجوارنا على قيد الحياة قبل قليل.!!
مشهد رابع: كفن أزرق.!
يسحق بياض الكفن عظام الأطفال الصغار، الأكفان البيضاء متراصة بجوار بعضها البعض، تكاد المقل تفزع من شدة البياض، غير أن هنالك كفن أزرق وحيد صغير بحجم كف بجوار الكف الآخر، بالكاد تتضح ملامح وجهه الصغير، عيناه أنفه الدقيق فمه الصغير خدوده كدمية تراها على رف أحد المحلات الكبيرة، عليك أن تتناوله بيديك كي تراه، يبدو كأنه نائم، لكنه شهيد صغير لم يتجاوز عمره الأسبوع الواحد خرج من رحم أمه ليته بقى هناك، فقد خرج والحرب مشتعلة واستشهد في حضن أمه والحرب لازالت مشتعلة، الكفن الأزرق ربما لا يسحق عظامه كباقي الأكفان، هو صامت والمشهد مهيب، العين تحدق في زرقة الكفن حتى ترى الكفن الأبيض أسفله قد سحق عظام الصغير بعد أن قذفت الحمم الصاروخية بجسده الصغير، بينما سقط ثدي أمه مضرجا بالدماء وصرخة ملتاعة حطمت جدران الصمت، لتسقط العائلة بأكملها تحت رماد البيت الجديد، وسرير الصغير بات كومة حطب مبللة بالدماء..!!
مشهد خامس: مقابر جماعية
ترتص الأكفان البيضاء بجانب بعضها في حفرة ترابية طويلة تتسع لمئة جثمان لشهيد، يحمل الناجون الجثامين البيضاء الملفوفة والمربوطة في عدة أماكن وقد غدا أغلبها باللون الأحمر فدمهم لازال طازجا، لم يجد الأطباء والمسعفون مكانا في مشرحة الموتى، ولا حتى ظل مكان لأجسادهم في ثلاجات الايس كريم، ولا ثلاجات الخضار فقد باتت المشافي مقابر جماعية، نام الحمام، مات الحمام ولم يجد كفنا ولم يجد قبرا، مات الحمام حين عجز عن انقاذ الأحياء، مات الحمام حين عجز عن تكفين شهداء غزة، مات الحمام وظلت جثامين الشهداء تتساقط وتتكدس، لم يعد هنالك مكان للناجين الأحياء مصابين وكهول ونساء وأطفال، جاء الناجون وحفروا بأيديهم العارية قبورا جماعية رصوا الشهداء وهم يبكون الأحياء منهم، جاءت جرافة حديدها يأكله الصدأ تحمل الأتربة الناعمة لتغطيهم كي لا يشعرون بالبرد ليلا..!! مات الحمام بعد أن دمروا عشه، مات الحمام مقهورا رافعا جناحيه لرب السماء..!
مشهد سادس: أكياس بلاستيكية
بلا كفن، كان الرجل الأسمر يلف كوفيته على رقبته ويمضي، يحمل كيسين بلاستيكيين يبدو البلل محيطا بهما، وقف كثيرا وظل صامتا، التفت الأمة حوله..! ما به كمارد خرج من قصص الجنيات، لا يبدو أنه أبكما، لكن وقوفه كما تقف الأشجار شموخا، وقوفه كان لجلل لا يعرفه كل من حوله، العشرات أصبحوا مئات لفيف يطلب منه أن يخطب فيهم، إنهم الناجون يبحثون عن أثر حياة، عن قوة تعيد لهم شغفهم بحياة فقدوها، ركضوا كثيرا من بيت لبيت ومن مدرسة إيواء إلى أخرى، يبحثون عن الحياة، ألقوا المنشورات في كل مكان، أرهبوا المناطق كلها بأحزمة نارية حيث تضرب الطائرات الحربية الإسرائيلية المارقة الملعونة عشرات الصواريخ دفعة واحدة، ثم تواصل الضرب لدقائق تستمر لأرباع الساعة ولا تتوقف لثانية واحدة، الشاهد الحي يري كأنما زلزال صاروخي هز البيوت فتتها، دمر كل شيء البشر والحجر ماذا يمكن أن يحتمل اللحم الحي من قذائف؟!! الرجل القوي يرفع الأكياس مادا يديه، ينزف الدم من الأكياس وتتساقط كقطرات المطر الحمراء تزداد حدقات العيون للناجين، يصرخ كذئب يعوي: هؤلاء أبناء جمعت قطعهم لم أغفو، أحضرت لحمهم وبعضا منهم لأجد لهم قبرا وكفنا..!!
للناجين/الكفن هو غطاء أو ستر يستر بدن الشهيد، يدفن الشهيد بثيابه بدمه كما سقط في الدنيا لينهض مطالبا بدمه من قتلته في الآخرة..!! فهل عز الكفن عن شهدائك يا غزة ..!!
روى مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) إعلامية وكاتبة فلسطينية /غزة