كتبت أسيل الجندي
منذ ستة عشر عاما لا تجد المقدسية هالة شويكي وقتا للاحتفاء بيوم المرأة الذي يحل غدا الخميس، فما يشغلها أكبر من ذلك وتحديدا زيارة ابنها أحمد المعتقل في السجون الإسرائيلية منذ كان طفلا.
ففي الثامن من فبراير/شباط 2002 انقلبت حياة العائلة -التي تسكن في حي الثوري جنوب المسجد الأقصى- رأسا على عقب بعدما سمعت الأم صوت إطلاق نار كثيف قادم من جهة المتنزه المطل على الحي.
لم تهتم السيدة المقدسية بالأصوات في بادئ الأمر اعتقادا منها بأنها مواجهات روتينية بين الشبان وقوات الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية، لكن الخوف بدأ يتسلل لقلبها مع توافد أصدقاء طفلها أحمد (14 عاما) إلى المنزل وسؤالهم عنه، فاضطربت وفتحت المذياع الذي أعلن خبرا عاجلا يفيد بأن شرطة الاحتلال تلاحق شبانا نفذوا عملية في المكان.
توجهت هالة وزوجها لمركز تحقيق المسكوبية، وهناك أخبرهما ضابط التحقيق أن ابنهما نقل للمستشفى للعلاج ورفيقه الذي استشهد.
تفاصيل الألم
وفي استذكارها تفاصيل تلك اللحظات، تحدثت للجزيرة نت قائلة “علمت أن أحمد أصيب بالرصاص في يده اليسرى وحتى لحظة وجودنا في المسكوبية لم أصدق أن ابني نفذ عملية، توقعت أن تكون طواقم سلطة الطبيعة أطلقت عليه الرصاص بينما كان يمارس هوايته في صيد الطيور، وسألت الضابط هل يمكنني التوجه للمستشفى لزيارته؟ فقال لي: ابنك معتقل أمني.. غادري”.
بدأت معاناة هالة شويكي في الساعة الأولى لاعتقال ابنها مصابا ولا تزال مستمرة منذ أكثر من 15 عاما (الجزيرة)
مرّ الشهر الأول لاعتقال أحمد قاسيا على قلب أمه، التي وجدت نفسها داخل دائرة لا تعرف عنها شيئا، وبعد ستة أسابيع عُقدت محكمة لطفلها وأصيبت بانهيار عصبي عند رؤيته يدخل قاعة المحكمة.
“كان شعر أحمد أشعثا وجسمه هزيل ويده معلقة برقبته بحبل وعلامات الإرهاق تعلو وجهه.. لم أتمالك نفسي وهددني الشرطي بأن يخرجني من القاعة إذا لم أصمت فورا”، تضيف هالة.
بعد مرور عام ونصف العام على اعتقاله، حكم على أحمد شويكي بالسجن الفعلي لمدة عشرين عاما بتهمة قتل مستوطن وجرح اثنين آخرين بالعملية التي نفذها مع صديقه الذي ارتقى شهيدا فورا، ومنذ ذلك العام ووالدته تتردد على زيارته من سجن لآخر ليستقر منذ سنوات في سجن النقب الصحراوي.
لزيارات السجون قصة أخرى “ما إن تنتهي الزيارة حتى أبدأ بالتحضير للزيارة التالية” تقول هالة، وتضيف “القوانين التي تفرضها إدارة السجون على الملابس التي يمكننا إدخالها للأسرى تعجيزية، وأضطر أحيانا لإعادة القطعة الواحدة واستبدالها بأخرى من التجار لمدة عام”.
وتقول والدة أحمد إنها تمضي 14 ساعة في يوم الزيارة بين المواصلات والانتظار والتفتيش المهين حتى يسمح لها بزيارة ابنها لمدة 45 دقيقة ومن خلف زجاج سميك وعبر سماعة يتعمدون التشويش عليها معظم الوقت.
وعن ما يتغير في حياة المرأة الفلسطينية عندما تصبح فجأة والدة أسيرة، سألنا سوسن مبيّض أم الأسيرة المقدسية مرح باكير، فأجابت “هذا يعني أن ينعدم الشغف بالحياة التي لم تعد تعني لي سوى تقليب الأيام التي أعدها بالثانية لتحرّر مرح واحتضانها من جديد.. الجميع يقول إن الأيام تمر بلمح البصر لكنها ليست كذلك في منازل ذوي الأسرى”.
واعتقلت سلطات الاحتلال مرح بينما كانت في طريق عودتها للمنزل من مدرستها في حي الشيخ الجراح، فأطلقت على يدها اليسرى 12 رصاصة بزعم حيازتها سكينا.
ومثل والدة أحمد هرعت والدة مرح، وهي من سكان بلدة بيت حنينا شمال القدس، إلى قسم الطوارئ في مستشفى هداسا العيساوية، وهناك قال لها ضابط المخابرات بعد التدقيق في هويتها الشخصية “مرح لم تعد لك أصبحت لنا”.
سرير مرح يحتضن كافة أعمالها اليدوية في السجن وتضع والدتها الغطاء الشتوي علي رغم غياب صاحبته (الجزيرة)
غياب مرح
مضى عامان ونصف العام على اعتقال مرح بعد حكمها بالسجن الفعلي لمدة ثمانية أعوام ونصف العام، وما زالت دموع والدتها عصية على الاحتباس عند الحديث عن ابنتها الأسيرة.
وتقول “ما زلت أضع على سرير مرح الغطاء الشتوي بالشتاء وأبدله بالصيفي مع حلول الربيع، وحتى اليوم لم أعتد على عدم جلب صحن وملعقة لها على طاولة الطعام، وبعدما يكتمل عددنا حول المائدة أتذكر أنني جلبت صحنا لمرح بالخطأ”.
التفاصيل الصغيرة التي لا تعني شيئا للكثيرين تصبح عظيمة وترفع من معنويات الأسرى وذويهم. وعن هذه الجزئية تحدثت سوسن قائلة “أشتري ملابس السجن لمرح بشغف وتأنٍ، وقبل شهور اشتريت لي ولها فستانين متشابهين، وعندما دخلت لزيارتها قلت لها جلبت لك فستانا لونه أسود ارتديه في الزيارة القادمة لأنني سأرتدي مثله أيضا حتى نكون متشابهتين.. هي تفاصيل لا تعني شيئا لأحد إلا لي ولمرح، وأهتم بها كثيرا”.
وعن أمنيتها في اليوم العالمي للمرأة، قالت سوسن إنها تتمنى دائما لو تخلد للنوم وتستيقظ لتجد أن كل ما تمر به وابنتها الأسيرة مجرد كابوس، وعندما تقنع نفسها أن كل ما تمران به هو واقع لا هروب منه، تكثف الدعاء بأن تسمع عن إتمام صفقة تبادل أسرى جديدة تمكّنها من احتضان مرح قريبا كي تمارس حياتها الطبيعية من جديد بعدما تجمدت منذ ظهر الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2015.
(لمة صحافة)